mohammad-k

مسؤول العملاء في تركيا
طاقم الإدارة

xm    xm

 

 

في الحقيقة تعتبر الموازنة العامة للدول ذات أهمية بالغة ليس من الناحية الحسابية فقط ، وإنما لأنها برنامج عمل الدولة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الذي تعمل الدولة على تنفيذه، وتعتبر الموازنة العامة الأداة التي تستطيع من خلالها الدولة وضع تقديرات دقيقة للإيرادات والنفقات وعن طريقها أيضا يمكن للدولة أن تعرف مقدار العجز في الموازنة، ويعتبر عجز الموازنة العامة للدول عموما النامية منها والمتقدمة عقبة تقف أمام سير الدولة في برنامجها في التنمية.

وتعتبر مصر من الدول التي عانت من تطور العجز واستمراره في موازناتها لسنوات طويلة، ولم تعرف مصر الديون الخارجية حتى عهد محمد علي باشا، نظرا لاحتكاره التجارة الخارجية والداخلية، في الوقت الذي كان يخشى فيه محمد علي الاقتراض من الخارج خوفا من التدخل الأجنبي، وحتى القروض التي كانت آنذاك لم تكن إلا قروض للإنفاق الشخصي وليست قروضا للإنتاج.

لقد عاشت مصر تجارب مريرة مع القروض الأجنبية، سواء من صندوق النقد الدولي أو من الدول الأجنبية، وقد بدأت مصر تقترض من الدول الأجنبية في عهد الخديوي سعيد (1854 - 1863)، حيث حصلت في عهده على أول قرض خارجي، وكانت هذه القروض بضمان حصيلة ضرائب الأطيان والجمارك، ومع حياة البذخ التي كان يعيشها سعيد، بدأت مصر تدخل في أزمة طاحنة، وزادت أعباء تلك الديون، ولم تكف هذه الحصيلة وغيرها لسداد القروض، وتضاءلت الثقة بالحكومة المصرية، فبدأت الدول الأوروبية التدخل المباشر في سياسة الحكومة المصرية، فكانت بعثة كييف سنة 1875 واقترحت إنشاء مصلحة للرقابة على مالية مصر، وأن يخضع الخديوي لمشورتها، ولا يعقد قرضا إلا بموافقتها، وكان هذا إيذانا ببدء الاستعمار، حيث باعت مصر حصتها في قناة السويس لبريطانيا، وبعد سنوات قليلة قامت بريطانيا باحتلال مصر.

وفي عهد الخديوي إسماعيل اتسعت حركة القروض من الداخل والخارج رغم زيادة الإيرادات ولكن كان هناك إساءة في استخدام هذه الإيرادات حتى أعلن عام 1886 عن إفلاس الدولة وبدأت بعدها مصر تدخل منعطفا خطيرا من سوء الأحوال الاقتصادية والسياسية وبدأت الدولة في التوسع في الاقتراض لسداد بعض التزاماتها، ولأن مصر كونها دولة فقيرة فإن العبء الأكبر لقروضها قد وقع على أفراد الشعب المصري، حيث كان عبء القروض في الماضي يتركز على الطبقة المحدودة الدخل بينما تخف الأعباء المالية على الأقلية الرأسمالية المسيطرة .

وفي عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر رفض صندوق النقد الدولي طلب مصر الحصول على قرض لتمويل بناء مشروع السد العالي، أحد أهم المشاريع التي أقيمت في مصر خلال القرن الماضي، حيث عرقلت الدول العظمى هذا الأمر لتمنع مصر من تنفيذ مشروعها، وحينها لجأ عبد الناصر إلى تأميم شركة قناة السويس، وتعرضت مصر بعدها للعدوان الثلاثي عام 1956.

وقد نفذت مصر منذ الثمانينيات حتى اليوم أربعة برامج اقتصادية بدعم مالي من صندوق النقد الدولي، وذلك بقيمة إجمالية 1.850 مليار دولار أمريكي بأسعار الصرف في نهاية مايو 2011، غير أن نحو خمس المبلغ المتاح فقط هو الذي تم صرفه بالفعل، ولم تفلح كل هذه القروض، والتي كان يلازمها تدخل في السياسة الاقتصادية المصرية، في حل المشكلات الاقتصادية، بل تفاقمت هذه المشكلات حتى بلغت حدا لا يطاق خلال الـ 15 عاما الأخيرة.

مراحل تطور العجز في الموازنة

فترة السبعينات :في هذه المرحلة كان هناك زيادة واضحة في النفقات الحربية، والإعلان عن بدء تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي وتشجيع الاستثمار العربي والأجنبي في مصر، مما أدى إلى تفاوت في الموازنة العامة في مصر بين النفقات والإيرادات، حيث وصل العجز في عام 1978 إلى 2399 مليون جنيه، وتم تمويل 40% من هذا العجز الناتج في هذه الفترة عن طريق الاقتراض من البنوك المحلية، بالإضافة إلى الاعتماد على المعونات الخارجية والديون .

فترة الثمانينات: وتميزت هذه الفترة بالإصلاح الاقتصادي والتخطيط لإصلاح النظام الاقتصادي، والاستمرار في تشجيع الاستثمار، وفي نفس الوقت زادت حدة البطالة وارتفاع الدين الخارجي واستمرار ارتفاع العجز، واستمر كذلك تمويل هذا العجز عن طريق الجهاز المصرفي الــــمحلي (البنك المركزي، والبنوك التجارية).

فترة التسعينات: شهدت هذه المرحلة العديد من التطورات الاقتصادية في مصر، والتوجه حثيثا نحو الخصخصة (التي سوف نتحدث عنها بالتفصيل في مقالة منفصلة)، بهدف التخلص من الأعباء المالية للديون الخارجية والداخلية، ففي عام 1991بدأ إصدار أذون الخزانة للاكتتاب العام بهدف تمويل عجز الموازنة، وكذلك صدر قانون الضريبة الموحدة على دخول الأفراد عام 1993، وانخفض العجز جراء هذه السياسة من 4.9 مليار جنيه عام 89/1990م إلى 2.7 مليار جنيه عام 94/ 1995م .

النصف الثاني من التسعينات إلى بداية الألفية الجديدة : رغم أن مصر أعلنت في عام 1996 أنه لا عودة للاقتراض من الخارج ولا عودة للاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلا أنها وتحت وطأة الظروف الاقتصادية السيئة التي عمت الاقتصاد العالمي في هذه الفترة إلا أنها عادت للاقتراض الخارجي بسبب انخفاض معدلات الاستثمار وبالتالي زيادة الضرائب العامة وبعض الرسوم وارتفاع معدلات البطالة، فوصل عجز الموازنة لعام 1998-1999 إلى 12.7 مليار جنيه، بينما وصل العجز في عام 99 /2000 إلى 14 مليار جنيه، وبلغ إجمالي الدين العام الخارجي عام 2001 إلى 106 مليار جنيه، وبلغ إجمالي الدين المحلي 215 مليار جنيه في نفس الــعام، وبهذا بلغ حجم الدين العام 103% من إجمالي الناتج المحلي.

فقرات من خطابات النوايا

في هذه الجزئية سوف نستعرض بعضا من فقرات خطابات النوايا التي تم توقيعها بين مصر وصندوق النقد الدولي وما تضمنته هذه الخطابات من سلب لحرية مصر السياسية والاقتصادية.

خطاب النوايا عام 1976:

صدر هذا الخطاب في مايو 1976 وقد تضمن برنامجا للإصلاح الاقتصادي مدته سنة واحدة في إطار ترتيب مساندة من الصندوق بمبلغ 125 مليون من وحدات السحب الخاصة (قيمة الوحدة 1.2 دولار أمريكي)، وقد تضمن الخطاب الإنجازات التي تمت وفي مقدمتها عملية الإصلاح الإداري التي تستهدف لا مركزية اتخاذ القرارات وجعلها أكثر استجابة لقوى السوق، ومن هذه الإنجازات أيضا تعديل قانون الاستثمار وزيادة إمكانية حصول المصـريين على السـلع المستوردة، وتأكيد المسئولين من الحكومة المصرية بأن الإجراءات التي اتخذت أو تلك التي ستتخذ بالفعل هي بمثابة إشارة لكل من المصريين والمجتمع الدولي، وأن الحاجة ستكون مستمرة للعون الخارجي

كما احتوي الخطاب على إجراءات في مجالات إصلاح نظام الصرف وسياسة التجارة الخارجية وتحديد المعاملات الداخلية واللامركزية والسياسة المالية والسياسة النقدية والائتمانية وسياسة الدين الخارجي والمتأخرات، ففي مجال إصلاح نظام الصرف وسياسة التجارة الخارجية، كما حدد الخطاب هدفا نهائيا هو توحيد سعر الصرف عند مستوى يعيد للاقتصاد توازنه الخارجي، بالإضافة إلى تحرير المعاملات الخارجية من القيود الإدارية وإقامة سوق تجارية جديدة يتحدد فيها سعر مرن للنقد الأجنبي.

وكان من بنود الخطاب أيضا جعل القطاع الخاص حرا في استيراد السلع دون قيود كمية وسوف يسمح لسعر الصرف في السوق التجارية أن يعوم استجابة لقوى العرض والطلب، بحيث يحفظ التوازن بين كميات النقد الأجنبي المباعة المشتراة في السوق.

وكمان من الشروط أيضا تحويل قدر كبير من المعاملات بالعملات الحرة القابلة للتحويل من السعر الرسمي إلى السعر التجاري بما ينطوي على تخفيض فعلي كبير للجنيه المصري مما يساعد بدرجة كبيرة على ترشيد القطاع الخارجي وسوف يتم إنهاء معظم اتفاقات الدفع الثنائية مع أعضاء الصندوق.

وفي مجال السياسة المالية: تضمن الخطاب إجراءات لاحتواء الإنفاق الخارجي وزيادة الإيرادات، ومن إجراءات احتواء الإنفاق الجاري، تم تخفيض تكاليف دعم المواد الغذائية بأكثر من 100 مليون جنيه، مقابل منح علاوة لنفقة المعيشة لذوي الدخل المحدود قدرها 30 مليون جنيه، فضلا عن توقع ضرورة منح زيادة أخرى في الأجور في أواخر السنة حينما تصبح ارتفاعات الأسعار الناتجة عن إصلاح سعر الصرف أكثر وضوحا.

وفي مجال السياسة النقدية والائتمانية: تضمن الخطاب أن البنك المركزي قد قام برفع أسعار الفائدة وإلغاء ضريبة المنبع على مدفوعات الفوائد باستهداف تشجيع المدخرات، وكذلك الحد من زيادة الأصول المحلية للقطاع المصرفي باستهداف احتواء التضخم.

وفي مجال سياسة الدين الخارجي والمتأخرات: استهدف البرنامج المتضمن في خطاب النوايا، تخفيض الاعتماد على الاقتراض الخارجي إلى مستوى أكثر تناسبا مع الاحتياجات، وتقليل الاعتماد على الاقتراض الخارجي قصير ومتوسط الأجل بواسطة الحكومة وبضمانها، وقصر الاقتراض متوسط الأجل في مدى أجل استحقاق أطول من 5 سنوات وتخفيض مستوى استخدام التسهيلات الائتمانية قصيرة الأجل للبنوك المراسلة كما تضمن الخطاب نية التخلص من المتأخرات السابقة بسرعة.

ولعل أهم ما احتواه خطاب النوايا الفقرات 20 – 22 ، فالفقرة (20) تسلب مصر تماما قدرتها وحريتها في تعديل نظام الصرف أو فرض قيود جديدة أو تشديد القائم منها على المدفوعات والتحويلات للمعاملات الدولية الجارية، كما تحرم عليها الدخول في أية اتفاقيات ثنائية للدفع، وإذا أخلت مصر بتعهداتها والتزاماتها الواردة في الفقرات 9 ، 11 ، 17 ، 18 ، 19 ، 20 ، فلن تستطع الحصول على أية موارد من الصندوق طبقا لترتيب المساندة، كما أنها ملزمة بنص الفقرة 22 من خطاب النوايا بالاستجابة لطلب المدير المنتدب للصندوق بالتشاور متى رأي ذلك.

وجدير بالذكر أن السياسات الاقتصادية التي طبقت وفقا لهذا البرنامج وطبقا لما ورد في خطاب النوايا (1976) كانت السبب الرئيسي في انتفاضة الشعب المصري في 18 و 19 يناير 1977، اعتراضا على تحميلهم عبء التكيف الاقتصادي المطلوب في إطار وصفة صندوق النقد الدولي، ففي إطار اتخاذ إجراءات تنفيذية لخطاب النوايا بعث "بول ديكي" ممثل صندوق النقد الدولي بالقاهرة بمذكرة سرية وشخصية إلى الدكتور " زكي شافعي " وزير الاقتصاد في ذلك الوقت، وقد جاء عنوانها " بعض الأفكار حول مسألة الإصلاح الاقتصادي " وفي هذه المذكرة أوضح "ديكي" أن الحاجة أصبحت ماسة لبعض الإجراءات الحازمة، ومن ضمنها تخفيض سعر الجنيه المصري إلى جانب رفع الدعم عن بعض السلع الضرورية التي كانت الحكومة لسنوات طويلة تقوم بدعمها لصالح لأفراد الشعب، وكان من بين هذه السلع السكر والخبز والسكر والوقود وبعض أنواع الأقمشة الشعبية وأدت مقترحات "ديكي" إلى شعور بالقلق العميق لدى الدكتور " زكي شافعي " وزملائه في المجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء، وأبدوا بعض الاعتراضات، وكان بين ما حاولوا شرحه لممثل صندوق النقد الدولي، أن مصر تحولت في حقيقة الأمر من دولة مصدرة إلى دولة مستوردة، فإذا جرى تخفيض قيمة الجنيه المصري، فمعني ذلك ببساطة أن فاتورة الواردات سوف ترتفع.

وعندما تسربت أخبار ما كان يجري في الكواليس إلى بعض الدوائر السياسية المهتمة في مصر، ثارت في مجلس الشعب زوبعة من الاحتجاج قادها بعض النواب المستقلين في مجلس الشعب في ذلك الوقت، لكن الضغوط على مجلس الوزراء وعلى المجموعة الاقتصادية كانت لا تقاوم، وهكذا جرت الموافقة في مجلس الوزراء على إلغاء الدعم عن بعض السلع تحت شعار "ترشيد الأسعار"

وصدرت صحف يوم 17 يناير 1977 تحمل على صفحاتها الأولى قوائم بخمس وعشرين سلعة ضرورية ارتفعت أسعارها، حيث شهد الصباح الباكر من يوم 18 يناير انفجارا شعبيا هائلا بدأ أولا في الإسكندرية، وبعد قليل ودون تنسيق انفجر في القاهرة.

واندفعت إلى الشوارع في كل مكان كتل بشرية من الرجال والنساء في مظاهرات ساخطة صاخبة تعلن معارضتها القوية لقرارات انقضت على رؤوسهم مفاجئة كالصواعق، وكان من شأنها أن تجعل الحياة مستحيلة بالنسبة لهم ولأسرهم، ولم يكد النهار ينتصف حتى كانت المظاهرات تجتاح مصر من أقصاها إلى أقصاها، من الإسكندرية وحتى أسوان، مما أدى إلى إصدار الرئيس السادات أمرا بتدخل الجيش وأصدر قرارا بإعلان الأحكام العرفية وفرض حظر التجول وتكليف الجيش بمسئولية السيطرة على الموقف.

ولم تهدأ المظاهرات إلا بعد أن قررت الحكومة إيقاف قرارات المجموعة الاقتصادية بزيادة أسعار السلع الأساسية. وأعلنت الحكومة استمرار منح العلاوة التي كانت قد تقررت يوم 17 يناير، ورغم أن انتفاضة يناير 1977 حالت دون تطبيق "وصفة " صندوق النقد الدولي، فقد نشطت في ذات الوقت الاتصالات مع صندوق النقد والبنك الدولي ومع الدول العربية ومع الولايات المتحدة الأمريكية.

خطاب النوايا لعام 1978 :

صدر هذا الخطاب في يونيو 1978 وقد تضمن الخطاب الحصول على تسهيل ممتد تبلع قيمته 600 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة لتنفيذ برنامجا للإصلاح الهيكلي مدته ثلاث سنوات تغطي الفترة من 1979 – 1981، ويقوم الإصلاح الهيكلي المتضمن في هذا الخطاب على دعائم أربع هي:

القضاء على الاختلال بين الأسعار والنفقات، وتخفيض الدعم، وتشجيع الزراعة، وإطلاق حرية مشروعات القطاع العام في استئجار العمال، فبالنسبة للقضاء على الاختلال بين الأسعار والنفقات، نص الخطاب على استمرار عملية ترشيد الأسعار خلال مدة البرنامج بهدف وضع عمليات شركات القطاع العام على أساس تجاري سليم ويتضمن هذا تعديل الأسعار المحددة "لتعكس نفقات الإنتاج بصورة أفضل" وبتحويل سلطة اتخاذ مجموعة عريضة من قرارات التسعير لمجالس إدارات الشركات.

وبالنسبة لتخفيض الدعم، فالخطاب نص على أن الحكومة سوف تعمل على جعل الإنفاق على الدعم ينمو بمعدل أقل كثيرا بالمقارنة بالإنفاق الحكومي الكلي في كل سنة من البرنامج، وبالنسبة لتشجيع الزراعة، فالبرنامج أكد على التوسع الرأسي بتحسين مرافق الري والصرف وتطوير خدمات الإرشاد الزراعي ومراجعة سياسات التسعير الزراعي وترشيد نظام التوزيع للمدخلات الزراعية.

وبالنسبة لسياسة التوظف في الحكومة والقطاع العام: فقد أكد الخطاب على أن شركات القطاع العام أصبحت حرة في اتخاذ قراراتها الخاصة بالتشغيل، وعلى ذلك فأنه مع حدوث تقدم في توفير فرص العمالة الحقيقية في القطاعات المنتجة، فسيكون من الممكن أيضا إعطاء الهيئات الحكومية استقلالا أكثر في هذا المجال.

كان عام 1974، 1975 يمثلان بدء تكييف صندوق النقد للاقتصاد المصري مع بدء تدشين سياسة " الباب المفتوح " ، كما شهدت الفترة من عام 1976 إلى عام 1987 تغلغل صندوق النقد عبر مسالكه الثلاثة معا: الإقراض لعلاج العجز في ميزان المدفوعات، ضمان تدفق قروض الحكومات والمصارف العالمية، والتدخل لإعادة جدولة الديون بعد تفاقم متأخرات القروض والفوائد.

وبدأت الحكومة المصرية في تطبيق بعض الإجراءات الاقتصادية منذ عام 1984، والتي كانت تستهدف إظهار التزام مصر بالإصلاح ورغبتها في تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي ومن ثم بدء حوار رسمي معه، وكان من بين تلك الإجراءات مضاعفة أسعار وسائل النقل، وزيادة أسعار استهلاك الكهرباء والبنزين واللجوء إلى إنتاج خبز متعدد الأنواع ومتفاوت الأسعار بدلا من رفع سعره بصورة صريحة إلى جانب ذلك اتجهت الحكومة المصرية في يناير 1985 إلى اتخاذ مجموعة من القرارات النقدية والاستيرادية التي استهدفت ترشيد السياسات الاقتصادية القائمة، وقد فجرت هذه القرارات مواجهة اجتماعية بين المستوردين وتجار العملة من ناحية، والحكومة من ناحية أخرى، الأمر الذي جعل الحكومة تتراجع عن تلك القرارات وهو ما كشف من ناحية أخرى عن عدم قدرة الحكومة على اتخاذ إجراءات فعالة لترشيد السياسة الاقتصادية القائمة.

كان هناك السخط من جانب قطاعات كبيرة من الشعب، والذي كشف عن نفسه في أكثر من مناسبة، ففي نوفمبر 1984، عندما أعلنت الحكومة زيادة قدرها 30% في أسعار بعض السلع الغذائية تظاهر عمال كفر الدوار، وكان على الحكومة أن تتراجع عن هذه الزيادات، بل وقامت بزيادة الدعم المخصص لميزانية 84 – 1985، كذلك في فبراير 1986، قامت مجموعة بسيطة من الشعب بجذب اهتمام عالمي عندما كشفت عن عدم رضائها عن أوضاعها المتردية، حيث قامت قوات الأمن المركزي بأعمال شغب وتمرد معبرة بذلك عن السخط السائد بين القطاعات الكادحة من الشعب المصري عن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي نحيا في إطارها.

وعلى صعيد آخر ، تباطأت عملية دفع الديون الخارجية حتى أنه بحلول شهر يونيو 1986 بلغت قيمة المتأخرات 4.30 مليار دولار وفرضت الولايات المتحدة الأمريكي عقوبة إضافية متمثلة في 4% على مدفوعاتها بسبب تخلف مصر عن دفع القروض الأمريكية ورفضت طلب مصر بتخفيض نسبة الفائدة على الديون العسكرية.

وهكذا تضافرت عوامل الأزمة الاقتصادية الحادة بملامحها المختلفة، وفشلت السياسات والإجراءات الاقتصادية الترشيدية التي اتخذت لمواجهتها، والتوتر الداخلي الناتج عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، والتشدد الأمريكي إزاء قضية الديون، فاتجهت مصر إلى مناشدة نادي الأصدقاء من أجل مساعدتها على مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي باتت تهدد قدرة مصر على دفع ثمن واردتها الأساسية، إلا أن الأصدقاء أكدوا أن المساعدات الإضافية لمصر لن تكون مجدية ما لم تتخذ خطوات أساسية على طريق الإصلاح الاقتصادي، وفي ضوء هذه الضغوط جميعها تحركت الحكومة نحو صندوق النقد الدولي، ودخلت في مفاوضات مضنية مع رئيس بعثة الصندوق في مايو 1986 من أجل التوصل إلى اتفاق مع الصندوق يمكنها من الحصول على مزيد من القروض من ناحية ويمهد لها الطريق لإعادة جدولة ديون باريس من ناحية أخرى، وقد وقعت مصر في مايو 1987 اتفاق مساندة مدته 18 شهرا مع الصندوق بعد أن استكملت المفاوضات حول" مسودة خطابه النوايا " في فبراير 1987.

خطاب نوايا 1987 :

في فبراير 1987 استكملت المفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي حول " مسودة خطاب النوايا ". حيث أشارت مقدمة مسودة الخطاب، إلى أن الحكومة استهدفت من خلال برنامجها للإصلاح الاقتصادي، زيادة دور آليات السوق وإعطاء دور متزايد لجهاز الأسعار في الاقتصاد والتحكم في التضخم من خلال تخفيضات فعالة في الإنفاق الحكومي مع زيادة إيرادات الدولة، كما استهدفت علاج العجز في ميزان المدفوعات عن طريق ترشيد واردات السلع الاستهلاكية وتشجيع الصادرات ثم أشارت المسودة إلى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة للإصلاح الاقتصادي مثل تقليل التعدد في أسعار صرف الجنيه وتقليل عدد السلع المدعمة من الدولة وزيادة أسعار البنزين والتعريفة الجمركية الجديدة.

ثم تطرق" مشروع خطاب النوايا" إلى بيان الإجراءات المتفق عليها بين مصر والصندوق والمقرر أن تنفذها الحكومة في 18 شهرا والتي بدأت في 15 مايو 1987 وانتهت في 30 نوفمبر 1988 وهي: سياسة سعر الصرف: حيث أكدت مصر اتجاهها لسعر صرف حقيقي للجنيه المصري بتحويل تدريجي للمعاملات من مجمع البنوك التجارية إلى السوق الحرة، لمنع التعدد في أسعار الصرف لتقليل الواردات وتشجيع الصادرات ويعتمد ذلك على دور نشط للبنوك التجارية تحت رقابة البنك المركزي المصري.

وفي السياسة النقدية والائتمانية: أشار الخطاب إلى زيادة تدريجية في أسعار الفائدة على الودائع بالبنوك وزيادة المدخرات، وفي السياسة المالية تم تحديد خفض العجز في ميزانية الدولة من خلال خفض عدد السلع المدعمة بواسطة الدولة، وخفض نسبته إلى الإنفاق العام للدولة في الميزانية، والتحكم في الإنفاق الاستثماري للحكومة من خلال تشجيع القطاع الخاص، بالإضافة إلى زيادة إيرادات الدولة من الضرائب من خلال الإصلاح الضريبي، وتحرير أسعار المحاصيل الزراعية فيما عدا القطن وقصب السكر مع زيادة أسعار نصف إنتاج السكر إلى الأسعار العالمية، وخفض حجم القروض المحلية للهيئات الحكومية وشركات القطاع العام وزيادة أسعار المنتجات البترولية والكهرباء لتقريب الأسعار المحلية من الأسعار العالمية.

ومع نهاية الثمانينيات احتاجت مصر مرة أخرى شهادة صندوق النقد الدولي لتذهب بها إلى نادي باريس لجدولة ديونها، وضغطت الدول المقدمة للمساعدات من أجل دفع مصر إلى عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بالشروط التي يراها ملائمة، حيث قامت الولايات المتحدة بتجميد المعونة النقدية خلال 1988 – 1989 والبالغة 230 مليون دولار والتي قررت عام 1987 تخصيصها بغرض تحقيق الاستقرار الاقتصادي في مصر وتشجيع الإصلاح ومواجهة أزمة المدفوعات.

وقد طالب الكونجرس بأن يتم منح المعونة النقدية مقابل اتخاذ خطوات سريعة في اتجاه الإصلاح الاقتصادي، وقد ربط تصريح المتحدث الرسمي الأمريكي الذي أعلن قرار تجميد المعونة بين استمرار المعونة النقدية، وتوقيع مصر لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بما يعد سابقة علنية جديدة للتنسيق بين الإدارة الأمريكية ومؤسسات التمويل الدولية بهدف ممارسة أقصى ضغوط على مصر لقبول شروط صندوق النقد الدولي بأقصى سرعة ممكنة.

وهكذا وفي ضوء تلك الأوضاع الاقتصادية والسياسية: شهدت مصر أزمة اقتصادية حادة، ومتأخرات متراكمة، وإصرار الدول الدائنة على الإصلاح أولا وضغوط أمريكية شديدة، لتتعثر مصر في مأزق الإصلاح التدريجي والجزئي وفي ضوء ذلك أصبح حتميا طبقا للمنهج الذي تبنته الحكومة المصرية تبني برنامج الإصلاح الجذري والشامل طباق لأجندة صندوق النقد الدولي ونصائحه وتصوراته ، ومن ثم بدأت نغمة رسمية جديدة تنبئ عن تحول أكثر راديكالية في السياسة الاقتصادية لمصر وبدأت الصحف القومية في عرض المشكلات الاقتصادية بشكل يومي وأخذت تظهر عناوين غير معتادة فبرزت إشارات إلى أنه لم يعد هناك طريق ممكن سوي تبني برنامج صندوق النقد الدولي لإعادة هيكلة الاقتصاد.

من جديد...........

يعاني الاقتصاد المصري حاليا عددا من المعضلات الاختلالات حيث بلغ إجمالي الدين العام المحلي 1.052 تريليون جنيه خلال 2012 بنسبة 68.1% من الناتج المحلي الإجمالية في حين أنه كان لا يزيد عن 493.879 مليار جنيه في 2007 ويرجع هذا التضخم في الدين العام المحلي نتيجة التوسع في القروض المحلية وإصدار أذون الخزانة العامة على حساب الاقتراض الخارجي حيث بلغت إجمالي الدين العام الخارجي في مصر خلال 2012 ما قيمته 33.422 مليار دولار بنسبة 13% من الناتج المحلي الإجمالي بينما كانت هذه القيمة تبلغ نحو 29.898 مليار دولار في 2007.

يضاف إلى ذلك ارتفاع خدمة الدين العام فقد بلغ إجمالي خدمة الدين العام 131.120 مليار جنيه، (يوليو 2011/مايو 2012) منها فوائد دين محلي تقدر بحوالي 92.151 مليار جنيه و 3.310 مليار جنيه فوائد دين خارجي، وقد سجلت أقساط الدين المحلي والخارجي 21.036 و 14.623 مليار جنيه على التوالي، ومثل سداد أقساط الفوائد ما نسبته 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي وإجمالي الأقساط المسددة 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي نفس الفترة (2012) علما بأن إجمالي خدمة الدين العام خلال السنة المالية 2007 كان يبلغ 54.725 مليار جنيه.

ومن هنا رسم صندوق النقد الدولي صورة قاتمة للوضع الاقتصادي المصري، معتبرا أن النمو الاقتصادي متوقف وكانت هذه أول إشارة من الصندوق إلى أن إنقاذ هذا الوضع يتطلب الاقتراض من الصندوق في ظل تقارب أميركي مصري واضح بعد ثورة 25 يناير، وكان وصول جماعة الإخوان المسلمين للرئاسة كفيلا ببدء المفاوضات الجدية لإنجاز هذا الغرض، بعدما تعثرت جهود الإقراض، خلال حكومة الجنزوري، بسبب تحفظات سياسية وعقائدية وضعتها جماعة الإخوان، الأمر الذي أعاق في ذلك الوقت الطلب المصري باقتراض ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وكان الرفض التقليدي للاستدانة من صندوق النقد الدولي يرتكن إلى التخوف من أن شروط الإقراض تنتقص من السيادة وتضع شروطاً تؤدي بقطاعات اقتصادية واجتماعية إلى الانهيار، وكذلك التخوف من التبعية السياسية لدوائر القرار الأميركية، إذ إن الصندوق بمثابة أداة اقتصادية تستخدمها الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها على مستوى العالم، وكثير من الدول التي اضطرت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، كان مآلها الإفلاس والتخلف، ومن أسباب الرفض الأخرى أن الاعتماد على الاقتراض الخارجي، يأتي في معظم الأحيان، كحل أسهل من اتخاذ خطوات اقتصادية هيكلية داخلية ومكافحة الفساد، ويكون الاقتراض من البنك الدولي، هو الحل الذي تسعى إليه الولايات المتحدة بالتوافق مع الدولة المقترضة والتي وقعت فريسة سهلة لشروط الصندوق الدولي.

ومع اتباع سياسة الغموض من قبل الحكومة في إخفاء الإملاءات والشروط التي يطلبها صندوق النقد مقابل إعطاء مصر لهذا القرض، أشار رئيس الوزراء هشام قنديل أنه ليس هناك شروط من قبل صندوق النقد على مصر في مقابل الحصول القرض، ولكن الواقع قد كشف غير ذلك، في وقت ظلت فيه قيادات جماعة الإخوان تشير إلى أنه ليست هناك شروط من صندوق النقد الدولي لإتمام القرض، وهي إشارات سطحية تثير السخرية، فوسائل الإعلام الأميركية، أشارت إلى أن الصندوق طلب من مصر الالتزام ببرنامج تقشف صارم يتمثل في خفض عجز الموازنة العامة بالعمل على زيادة العائدات وتحجيم الإنفاق العام، وتخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار والعملات الرئيسية، وذلك من خلال رفع الدعم عن عدة مواد ضرورية للمواطن المصري، كالوقود والطعام، هذا الدعم الذي تستفيد منه شرائح اجتماعية مصرية واسعة.

حيث أشار الكاتب راودن مؤلف كتاب"السياسات المميتة لليبرالية الحديثة" إلى أن صندوق النقد الدولي ليس مؤسسة تنمية ودودة، بل على العكس فإن إدارته تأتمر بأمر وزارة الخزانة الأمريكية ووزارات مالية الدول المقرضة الغنية الكبرى، والتي تتعرض هي نفسها أصلا لضغوط من مؤسسات صناعة المصارف داخل هذه الدول من أجل إقراض الآخرين بمكاسب عالية.

وقال رادون في بحثه: إن أولويات صندوق النقد هي فرض إصلاحات وتغييرات اقتصادية داخل البلاد المقترضة تضع مصلحة المقرضين وأصحاب المال فوق أي اعتبار، في حين تضع احتياجات الشعوب من يعيشون في الاقتصاد الحقيقي لتلك الدول في آخر الأولويات.

وقال راودن، الذي عمل كمستشار للأمم المتحدة سابقا وقام بتدريس السياسة الدولية في جامعة ولاية كاليفورنيا، قال إن صندوق النقد يتبع سياسة وضعها الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية المحافظة مارجريت تاتشر في الثمانينات، وكلاهما نادى بمد نفوذ الرأسمالية الغربية على العالم، وتقول تلك السياسة إن الوسيلة لذلك هي دفع الاقتصاديات النامية للعمل نحو تخفيض التضخم وتقليل العجز في الميزانية ليصبح ذلك هدفا أساسيا لها عوضا عن سياسة تعتمد على خلق تنمية صناعية وتجارية حقيقية.

وقال راودن أنه قد تم تلقين تلك الدروس لموظفي حكومة الرئيس السابق حسني مبارك في مصر عن طريق المساعدات الفنية والمنشورات والتحليلات الآتية من الصندوق والبنك الدولي حتى اقتنعوا بها وبدأوا تنفيذها بصورة آلية” حتى أن هذا الفكر استشرى في جميع موظفي وزارة المالية المصرية وعدد من الوزارات الأخرى.

وأضح راودن أنه يجب على مصر أن ترفض تلك الأرثوذكسية الفكرية وان تحتفظ بحريتها في دراسة واختيار بدائل مالية واقتصادية وفي الميزانية والتجارية والتي يمكن أن تولد دخل أعلى والمزيد من التوظيف ودخل أكبر من الضرائب واستثمارات عامة، وهو ما سيقلل الفروق في الدخول داخل البلد.

وحذر راودن من أن بعض الاتفاقات الدولية والتي تأتي مع القروض تقيد يد الدولة في فرض سياسات تراها مناسبة حيث إن الكثير من الاتفاقات الدولية التي تؤيدها الدول الصناعية الغنية تمنع مثلا أن تقوم مصر وتونس من وضع قيود على حركة رأس المال وتقلل من قدرة الدول النامية مثل مصر وتونس من وضع الحماية التجارية الكافية لصناعاتها المحلية الوليدة وتحظر حتى عليهما وضع تشريعات وقوانين خاصة تنظم القطاع المالي الداخلي.

وقال راودن إن مصر، على سبيل المثال، إذا ما أخذت قروض صندوق النقد التي تروج الحكومة له إعلاميا على أنه مساعدات فإنها ستدخل في مرحلة جديدة من الخصخصة التي تدمر الوظائف وعمليات تحرير اقتصادي تتم قبل حينها أي قبل خلق قاعدة صناعية وتجارية محلية أولا تسمح بالمنافسة الدولية، ووجه راودن النصح إلى مصر والدول العربية بالبحث عن التمويل من خارج الدول الصناعية الغربية الكبرى والمؤسسات التي تسيطر عليها.