رضا البطاوى
عضو فعال
- المشاركات
- 2,704
- الإقامة
- مصر
نظرات في كتاب البيان في حكم التغني بالقرآن
المؤلف بشار عواد معروف وهو يدور حول حكم تطريب وتلحين القرآن وقد تحدث عن اختلاف القوم في القديم والحديث في حكم المسألة فقال:
" فالقرآن العظيم هو كتاب الله الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ...ومعلوم أن تزيين قراءة القرآن الكريم وتحسين الصوت بها والتطريب عند القراءة وقع في النفوس وأدعى إلا استمتاع والإصغاء إليه ففيها تنفيذ للفظ القرآن إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفيذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام تكون الطبيعة أدعى له قبولا
وقد اختلف العلماء في قراءة القرآن بالألحان منذ القديم إلى يوم الناس هذا فنص على كراهتها الإمامان أحمد بن حنبل ومالك بن أنس ورويت هذه الكراهة عن أنس بن مالك -بسند ضعيف كما سيأتي- وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن /66/ البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وتابعهم القرطبي وغيره
وأجاز آخرون رفع الصوت في قراءة القرآن والجهر والتطريب والتغني به لأنه أوقع في النفوس وأسمع في القلوب وهم: أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل وأبو جعفر الطبري وأبو الحسن بن بطال وأبو بكر بن العربي وابن قيم الجوزية وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم
وامتد هذا الخلف حتى وصل إلى عصرنا هذا فكتب فيه من كتب كارها مانعا أو مجوزا فممن منعوه وتشددوا في المنع العلامة محمد أبو زهرة وغيره وممن جوزوه العلامة رشيد رضا ولبيب السعيد وأحمد عبدالمنعم البهي وغيرهم "
وقد ذكر لماما تخوفات القدماء فقال :
"وإذا كان بعض الأقدمين قد كرهه استنادا إلى فهمهم لبعض كلمات أو عبارات وردت في بعض الأحاديث وخوفهم من أن بعض القراءات بالألحان قد تؤدي إلى همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءآت فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن فإن بعض المحدثين -مما يؤسف عليه- ذهبوا إلى محاولة نفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن المصطفى (ص)واستدلوا بأحاديث ضعيفة وبنوا أحكامهم عليها وهذه بلية كبيرة "
وتحدث معروف عن كون ثبات الأمر أو نفيه مداره الأحاديث متغافلا تماما عن كتاب الله فقال :
"ومعلوم أن مثل هذه الأمور إنما تثبت أو تنفى بالرجوع إلى سنة المصطفى (ص)ومعرفة صحيحها من سقيمها ودراسة الأحاديث والأدلة التي استند إليها الفريقان "
وانتهى معروف إلى أن أحاديث منع التغنى وهو التطريب والتلحين كلها لم يثبت منها شىء بينما ثبت عنده أحاديث الاباحة فقال :
"وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دراسة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع فثبت عندي من حديثه (ص)ضرورة تحسين الصوت والتطريب والتغني بالقراءة للقرآن الكريم ولم يثبت عندنا حديث واحد في منع ذلك أو كراهته مما يمكن أن ترد به تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة"
واستعرض معروق أدلته في إباحة التغنى فقال :
"فأحببت أن ينتفع بذلك إخواني من محبي كتاب الله والإنصات إليه والحنين إلى سماعه فضلا عما سأسوقه من أقوال الصحابة والتابعين وأدلة العلماء المتشبعين بسنة المصطفى (ص)وما أبينه من العلل في الأحاديث المنسوبة على رسول الله (ص)التي استدل بها بعض العلماء في النكير على من جوز ذلك وإليك دلالات ذلك:
الدليل الأول:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما والنسائي في السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)« لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغني بالقران » /70/
وقد اختلف العلماء في معنى قوله (ص)« يتغنى » على وجهين رئيسين:
أ- الاستغناء به وهو من الاستغناء الذي ضد الافتقار لا من الغناء يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت وتغانوا: أي استغنى بعضهم عن بعض وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة كما صرح به البخاري وغيره إذ قال بعد أن ساق هذا الحديث من طريق سفان عن الزهري قال: قال سفيان: تفسيره يستغني به وكان يقول في حديث: « ليس منا من لم يتغن بالقرآن »: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره ولم يذهب إلى الصوت ونصره في ذلك أبوعبيد القاسم بن سلام فقال: وهذا جائز فاش في كلام العرب ...
وبهذا أيضا قال وكيع بن الجراح ولعله اختيار محمد بن إسماعيل البخاري لإتباعه ترجمة الباب بقوله تعالى: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } وقال أبوالعباس ثعلب: « الذي حصلناه من حفاظ اللغة في قوله (ص)« كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » أنه على معنيين على الاستغناء وعلى التطريب قال الأزهري: فمن ذهب به إلى الاستغناء فهو من « الغنى » مقصورة ومن ذهب إلى التطريب فهو من « الغناء » الصوت ممدود
ب- تحسين الصوت والتحزن به والتلذذ والاستحلاء كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفع عنده ما يفعل عند الغناء كما سيأتي مفصلا
وتفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه مردود من عدة وجوه نذكر منها ما يتيسر:
1- إن مسلم بن الحجاج أخرج في صحيحه هذا الحديث بلفظ آخر صرح فيه بحسن الصوت فقال: حدثني بشر بن الحكم قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد قال: حدثنا يزيد وهو ابن العاد عن محمد بن إبراهيم (التيمي) عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به »
2- وروى عبدالأعلى عن معمر عن الزهري في حديث الباب بلفظ: « ما أذن لنبي في الترنم في القرآن » أخرجه الطبري وعنده في روياة عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: « ما أذن لنبي حسن الصوت » -أي كما أوردناه من صحيح مسلم ووقع عند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة: « حسن الترنم بالقرآن »
قال الطبري: ومعقول عند ذي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به
3- وأخرجه البخاري هذا الحديث في موضع آخر ومسلم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع النبي (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به »
وأخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه من طريق الليث عن عقيل عن الزهري عن أبي سلمة عبارة « يجهر به » /73/ خارجة عن قول النبي (ص)فقال إثر روايته الحديث: « وقال صاحب له: يريد يجهر به »
قال الحافظ ابن حجر: فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره لاسيما إذا كان فقيها وقد جزم الحليمي أنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكني
وقال الطبري: وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا ولو كان كما قال ابن عيينة -يعني: يستغني به عن غيره- لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى
4- وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا لو أراد به الاستغناء لقال: لم يستغن بالقرآن ولكن لما قال: يتغنى بالقرآن علمنا أنه أراد به التغني
5- وقال عمر بن شيبة: ذكر لأبي عاصم النبيل -الضحاك بن مخلد- تأويل ابن عيينة فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئا
6- وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلا استماع لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به 7- قال الطبري: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغني: طويل الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإقامة من قول العرب: غني فلان بمكان كذا: إذا أقام به ومنه قوله تعالى: { كأن لم يغنوا فيها }
8- وقال الطبري أيضا: ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة وإن كان كذلك فهو غلط من وجهين أحدهما: من اللغة والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه أما اللغة فإن الأذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان فهو يأذن له: إذا استمع وأنصت /76/ كما قال تعالى: { وأذنت لربها وحقت } بمعنى: سمعت لربها وحق لها ذلك كما قال عدي بن زيد:
إن همي في سماع وأذن بمعنى: في سماع واستماع فمعنى قوله: « ما أذن الله لشيء » إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن
9- ومع أن الحافظ ابن حجر حاول جاهدا الدفاع عن تفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه لكنه لم ينكر أيضا أنه أيضا بمعنى تحسين الصوت به والجهر والترنم عن طريق التخزين لتظافر ظواهر الأخبار الصحيحة على ترجيح هذا المعنى فقال: « والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن مستغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصوت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألى طالبا غنى يد والنفس صم الزم
10- وإذا جمعت هذه الآراء والتأويلات إلى الأحاديث الصحيحة التي سوف نسوقها بعد قليل تبين صحة تأويل من قال أنه بمعنى تحسين الصوت والتطريب والغناء المعقول "
صال معروف وجال بين أقوال القوم مثبتا ونافيا من خلال كتب اللغة وهى ليست حجة في الدين لورود الكلمة فيها بمعانى متعددة وهذا هو دليله ألأول في حديثه عن الدليل ودليله الثانى روايات حسن الصوت وهى روايات باطلة لأنها تمنع من صوته ليس بحسن كالصوت الخشن والصوت الرفيع من قراءة القرآن لانعدام حسن الصوت عن البشر وهو ما يناقض وجوب قراءة القرآن من كل المسلمين كما قال تعالى :
" فاقرءوا ما تيسر من القرآن"
ودليله الثالث أقوال الرجال كالشافعى وغيره وكل البشر ومنهم أنا لا قيمة لكلامنا طالما تعارضت مع كتاب الله
ولو استخدمنا كلمة لحن فقد وردت في سياق تحريم الكلام الملحن فهو صفة من صفات المنافقين قال تعالى فيها:
"ولتعرفنهم في لحن القول"
وتحدث عن دليله الثانى فقال :
الدليل الثاني:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحها وأبوداود في السنن من حديث عبدالله بن مغفل قال: « رأيت النبي (ص)يقرأ وهو على ناقته -وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح- أو من سورة الفتح- قراءة لينة يقرأ وهو يرجع »
وبين عبدالله بن مغفل كيفية ترجيعه وأنه آ آ آ ثلاث مرات قال شعبة عن معاوية بن قرة المزني راوي الحديث عن عبدالله بن مغفل: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال: « آ آ آ ثلات مرات » أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما
وزعم القرطبي أن ذلك مجموع على إشباع المد في موضعه ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه
وهذا الذي ذهب إليه القرطبي مردود بمن هو أفضل منه في فهم حديث رسول الله (ص)قال العلامة ابن القيم: « أن هذا الترجيع منه (ص)كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار فلم يكن عبدالله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيار ليؤتسى به وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ثم يقول: كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا »
وقال الحافظ ابن حجر متعقبا القرطبي: وهذا فيه نظر لأن في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: « وهو يقرأ قراءة لينة فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن » وكذا أخرجه أبوعبيدة في « فضائل القرآن » عن أبي النضر عن شعبة "
لو صحت الحديث فالقراءة اللينة تعنى القول السهلة الواضحة والترجيع يعنى التكرار وليس آآآ كما زعموا
والحديث راويه شكك فيه هل قرأ السورة كاملة أو بعضها ومن ثم فهو مردود لعدم معرفة راويه للحدث بالضبط
زد على ذلك أن قراءة القرآنم وهى صلاة لا تكون بصوت مسموع يعرفه الناس وإنما بصوت لا هو جهرى ولا هو سرى وهو ما يعنى عدم معرفة السماع لما يقرأ المصلى كما قال تعالى :
" ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا"
وتحدث عن الدليل الثالث فقال :
الدليل الثالث:
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (ص)لأبي موسى: « لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود »
وأخرج البيهقي بإسناد مسلم نفيه « داود بن رشيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا طلحة عن أبي بردة عن أبي موسى » زيادة أنه قال لرسول الله (ص)« لو علمت لحبرته لك تحبيرا » وقد نص البيهقي على أن هذه هي رواية مسلم ومع أن الزيادة ليست فيه فهي زيادة صحيحة لورودها بالإسناد نفسه فكأنما مسلما اقتصر منه على ما ذكر
وأخرجها ابن سعد أيضا من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم وفيها: وكان حلو الصوت
قال الخطابي: قوله « آل داود » يريد داود نفسه لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي وداود عليه السلام إليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة
وفي هذا الحديث شبه (ص)حسن الصوت وحلاوة نغمته بصوت المزمار وأصل الزمر: الغناء قال النووي: قال العلماء: المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة "
الحديث باطل فالمزامير لا تنسب لآل داود وإنما تنسب لداود (ص) كما هو معروف
أن كلمة المزمور والمزامير تطلق عند أهل الكتاب على عبارات الكتاب وليس على الصافرة التى تسمى مزمار
أن الله وصف عمل داود(ص) بالتسبيح وليس بالغناء أو بالتزمير فقال :
"وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير"
وأما الدليل الربع عنده فقال فيه:
"الدليل الرابع:
أخرج مالك في الموطأ وأحمد في مسنده والحميدي والبخاري ومسلم في صحيحيهما وابن ماجه وأبوداود /81/ والترمذي والنسائي في سننهم وابن خزيمة في صحيحه من حديث البراء بن عازب قال: « سمعت النبي (ص)يقرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه »
قال الحافظ ابن حجر: ومراده منه هنا: بيان اختلاف الأصوات بالقراءة من جهة النغم"
هذا ليس بدليل تشريعى لأنه لم يصدر من الله ورسوله(ص) وإنما وصف صحابى لصوتا النبى(ص) والوصف ليس حكما وقال :
"الدليل الخامس:
أخرجه البخاري في التوحيد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)« ليس منا من لم يتغن بالقرآن »
وهذا الحديث أخرجه أبوداود في الصلاة من حديث أبي لبابة بسند قوي وأخرجه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص
وأخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت /82/ الشافعي يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن فقال له رجل: ليستغني به فقال: لا ليس هذا معناه معناه: يقرؤه حدوا وتحزينا
وذكر أبوداود في روايته أن عبدالجبار بن الورد قال لابن أبي مليكة عند روايته للحديث: يا أبا محمد أرأيت أن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع
وقال أبوسعيد ابن الأعرابي في هذا الحديث: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي (ص)أن تكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني "
هذا الدليل هو اعادة للدليل الأول وقد سبق مناقشته لأنه يستدل بنفس الحديث وقال:
الدليل السادس:
عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله (ص)« لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته » والقينة: المغنية
قلت: هذا حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم قال حديثنا الأوزاعي قال حدثنا إسماعيل بن عبيدالله عن ميسرة مولى فضالة فذكره /83/
وقد صرح الوليد بن مسلم بالسماع من الأوزاعي فهو ثقة عند تصريحه وإسماعيل ثقة وميسرة مولى فضالة وثقه ابن حبان وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبعة العليا التي تلي الصحابة ولم نجد فيه جرحا
وأيضا فهو متابع عليه فقد أخرج البيهقي من طريق العباس بن الوليد بن مزيد وهو صدوق عن أبيه وهو ثقة ثبت عن الأوزاعي به ولكن ليس فيه (عن ميسرة) فرواه عن فضالة بن عبيد مباشرة وفي سماعه منه نظر كما قال المزي في تهذيب الكمال على أن المتن صحيح لما ذكرنا أولا وإن سقط اسم ميسرة من مسند أحمد فهو في الأصل كما نص على ذلك الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن كما حققناه في مسند فضالة بن عبيد من كتابنا المسند الجامع "
الحديث اتهام صريح لله بتهمتين :
الأولى التجسد بوجود عضو سمعى هو أذن لله وهو ما ينفيه عدم شبهه بالحلق في قوله تعالى:
" ليس كمثله شىء"
الثانية أن الله يسمع حسب هواه فينصت لشىء أكثر من شىء وهو ما يناقض أنه يسمع كل شىء بطريقة واحدة لذلك اسمه السميع وقال :
الدليل السابع:
أخرج أحمد في مسنده والدارمي في سننه والبخاري في /84/ خلق أفعال العباد وأبوداود(8) وابن ماجه والنسائي(10) في سننهم وابن حبان(11) في صحيحه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي من حديث البراء بن عازب أن رسول الله (ص)قال: « زينوا القرآن بأصواتكم »
وهو حديث صحيح ومعناه تحسين الأصوات عند القراءة فإن الكلام الحسن يزيد حسنا وزينة بالصوت الحسن وهو أمر مشاهد ولكن لما رأى بعضهم أن القرآن أعظم من أن يحسن بالصوت بل الصوت أحق بأن يحسن بالقرآن قال: معناه زينوا أصواتكم بالقرآن وزعم بعضهم أنه من باب القلب فقد رواه معمر عن منصورعن طلحة: زينوا أصواتكم بالقرآن
على أن الأمر بالتزيين -كما أورده القرطبي عن بعضهم- هو اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك: أي زينوا القراءة بأصواتكم فيكون القرآن بمعنى القراءة كما قال تعالى: { وقرآن الفجر } أي قراءة الفجر وقوله تعالى: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي: قراءته
ومع أن البخاري علق هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه لإثبات كون التلاوة فعل العبد فيدخلها التزيين والتحسين والتطريب من فعل القارئ وتتصف بما تتصف به الأفعال فإنه يدل في الوقت نفسه على جواز التزيين والتحسين والترجيع والتطريب فالمراد واحد إن شاء الله "
الحديث باطل المعنى وإنما زينة القرآن هى طاعته وأما ترديده ترديد المغنيين الملحنين المطربين فهو إثم عظيم فالقرآن نزل لطاعته وليس للتغنى الكلامى به كما قال تعالى :
"وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"
فما الفائدة من ذلك الترديد الكلامى إذا كنا نعصى الله ؟
وقال :
الدليل الثامن:
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (ص)« تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل »
قال بشار: هذا حديث صحيح رجاله رجال مسلم زيد بن الحباب تكلم بعضهم في حديثه عن الثوري فهو ثقة في غيره خبر ابن عدي أحاديث فوجدها مستقيمة وقال: وهو من أثبات مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه»
وموسى بن علي بن رباح اللخمي المصري ثقة وثقه البخاري وابن سعد ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والعجلي وأبو حاتم الرازي والنسائي وابن /87/ حبان(8) والذهبي وما أظن الحافظ ابن حجر أصاب حينما قال في التقريب: صدوق ربما أخطأ(10)
أما أبوه علي بن رباح فهو من ثقات التابعين المعروفين لا يحتاج إلى بيان
وأخرجه من طريق موسى بن علي عن أبيه: أحمد والدارمي والنسائي في « فضائل القرآن واللفظ له-: « تعلموا القرآن وتغنوا به واقتنوه والذي نفسي بيده له أشد تفلتا من المخاص في العقل »
وأخرجه أحمد والنسائي في « فضائل القرآن » من طريق قباث بن رزين -وهو صدوق- عن علي بن رباح فتابع موسى في روايته عن أبيه /88/
وقد جاء في بعض الروايات مقتصرا على قوله: « واقتنوه » من غير قوله « وتعنوا به » فقال قباث: ولا أعلمه إلا قال: وتغنوا به وفي رواية أخرى قال: وحسبته قال: وتغنوا به "
الحديث إن صح فالتغنى بالقرآن يعنى العمل به أو طاعته أو على أقل تقدير تدبره وهو فهمه لطاعته كما قال تعالى :
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته"
وقال :
"الدليل التاسع:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وفي خلق أفعال العباد وأبوداود وابن ماجه والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث قتادة قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي (ص)قال: كان يمد مدا وفي رواية أخرى عن قتادة: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي (ص)فقال: كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم"
والمد ليس من التغنى وهو التلحين لأن المد هو هنا مد ألف المد أى فتحها ومد الياء يعنى كسرها والمراد نطق حرف المد قدر نطق الحرف ألأخر مرتين في الزمن للفهم فلو نطقت الرحمن الرحمن وليس الرحمان لكان المعنى مختلفا
وبعد أنتهى معروف من أدلته الواهية نقل لنا أقوال تتعارض مع حكاية التغنى فذكر أحاديث التباكى والتحزن عند قراءة القرآن فقال :
"إضاءة:
وقد كان السلف يحبون الصوت الحسن ويطربون لقراءته فتكون قراءته أوقع في قلوبهم وأحلى قال: أبوعثمان النهدي: « ما سمعت مزمارا ولا طنبورا ولا صنجا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري إن كان ليصلي بنا فنود أنه يقرأ البقرة من حسن صوته » لذلك كان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ أبوموسى
وروي أن أسيد بن الحضير أحد النقباء الإثني عشر ليلة العقبة كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن
وذكر حنظلة بن أبي سفيان عن عبدالرحمن بن سابط عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استبطأني رسول الله (ص)ذات ليلة فقال: « ما حبسك؟ » قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتا بالقرآن فأخذ رداءه وخرج يسمعه فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة فقال: « الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك » /90/
والمسلمون يستحبون البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن قال تعالى: { خروا سجدا وبكيا }
وعقد البخاري في فضائل القرآن من صحيحه بابا للبكاء عند قراءة القرآن
وقال العزالي: « يستحب البكاء مع القراءة وعندها وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف يتأمل القارئ ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزنه لا محالة ويبكي »
وقال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين
وقال الحافظ ابن حجر ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثير في رقة القلب وإجراء الدمع "
وناقش أدلة المحرمين فقال :
"أما المانعون فاستدلوا بأحاديث لا تثبت عن المصطفى (ص)منها:
1- ما قيل إن حذيفة بن اليمان روي عن النبي (ص)أنه قال: « اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم »
رواه أبو الحسن رزين في تجريد الصحاح ورواه أبوعبدالله الحكيم الترمذي في نوادر الأصول واحتج به القاضي أبو يعلى في "الجامع" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث بقية بن الوليد عن الحصين الفزاري عن أبي محمد عن حذيفة
قلت: لا يصح فبقية يدلس عن الضعفاء وقد عنعن والحصين بن مالك الفزاري ليس بمعتمد قال الذهبي في الميزان: « الحصين بن مالك الفزاري عن رجل عن حذيفة « اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها » تفرد عن بقية ليس بمعتمد والخبر منكر وأبو محمد مجهول ففيه ثلاث علل »
2- واستدلوا بحديث عابس بن عبس الغفاري في شرائط الساعة فذكر أشياء منها: « أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء »
أخرجه أحمد في مسنده من حديث شريك عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان عن عليم عن عابس وسنده ضعيف لضعف أبي اليقظان وأخرجه الطبراني وابن شاهين من طريق موسى الجهني عن زاذان قال: كنت مع رجل من أصحاب النبي (ص)يقال له عابس أو ابن عابس وذكر الحديث من غير ذكر عليم ولم يضبط الصحابي ومدار الحديث على زاذان وهو متكلم في عقيدته كان كثير الكلام كما في ضعفاء العقيلي والتهذيب وغيرهما وأيضا: فإنني لم أجد أحدا من أهل العلم ذكر أن موسى الجهني /94/ قد روى عن زاذان فلا يحتج بمثل هذا الحديث المضطرب السند تجاه الأحاديث الصحيحة التي سقناها
3- وقالوا: وقد منع النبي (ص)المؤذن المطرب في أذانه من التطريب واستدلوا بحديث أخرجه الدارقطني في سننه من حديث ابن عباس قال: كان لرسول الله (ص)مؤذن بطرب فقال النبي (ص)« إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن»
قلت: هذا حديث ضعيف جدا ففي سنده إسحاق بن أبي يحيى الكعبي: ضعفه الدارقطني نفسه وعد الذهبي حديثه هذا عن ابن جريج من أوابده وقال في الميزان: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات
4- واستدلوا على كراهية أنس بن مالك للتطريب بالقرآن ما روي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب وكان رفيع الصوات فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه /95/
ولم نعرف لهذا الخبر راويا عن أنس غير زياد بن عبدالله النميري فعليه مدار الحديث وهو ضعيف قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه فضعفه
وقال أبو حاتم: « يكتب حديثه ولا يحتج به وذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" أولا وقال يخطئ ثم عاد فذكره في "المجروحين" وقال: منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات لا يجوز الاحتجاج به تركه يحيى بن معين » وقال الدار قطني في السنن: ليس بالقوي وضعفه الحافظان: الذهبي وابن حجر وكفاك بهما "
الرجل هنا ذكر المتكلم فيهم في أحاديث المانعين مع وجود أمثالهم في أحاديثه المبيحة
وانتهى معروف إلى أن رأى ابن حجر هو الرأى الصحيح وهو اعتقاده فقال :
"القول الفصل:
بعد كل هذا الذي قدمنا نرى من المفيد أن نقتبس خلاصة رأي واحد من أعاظم المحدثين الفقهاء ممن تشبعوا بالهدي النبوي وعرفوه حق معرفته في هذه المسألة هو حافظ عصره ابن حجر العسقلاني وهو خلاصة هذا البحث وهو الذي نعتقده ونؤمن به لما تحصل عندنا من الأدلة
قال الحافظ ابن حجر: « والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح
ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءآت فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء ولعل هذا مستند من كرة القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء"
والبحث وما بنى عليه باطل فالقرآن نزل لقراءته قراءة عادية لفهمه ومن ثم طاعته ولم ينزل ليكون مجرد أقوال ملحنة مطربة لا يفهم سامعها معناها والايمان بصحة رأى الإباحة دفع المفسدين من أهل التلحين والغناء الموسيقى أن يحولوا كتاب الله لأغانى وقد شهد اهل العصر على فعل بعض المعنيين والملحنيين للأمر
المؤلف بشار عواد معروف وهو يدور حول حكم تطريب وتلحين القرآن وقد تحدث عن اختلاف القوم في القديم والحديث في حكم المسألة فقال:
" فالقرآن العظيم هو كتاب الله الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ...ومعلوم أن تزيين قراءة القرآن الكريم وتحسين الصوت بها والتطريب عند القراءة وقع في النفوس وأدعى إلا استمتاع والإصغاء إليه ففيها تنفيذ للفظ القرآن إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفيذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام تكون الطبيعة أدعى له قبولا
وقد اختلف العلماء في قراءة القرآن بالألحان منذ القديم إلى يوم الناس هذا فنص على كراهتها الإمامان أحمد بن حنبل ومالك بن أنس ورويت هذه الكراهة عن أنس بن مالك -بسند ضعيف كما سيأتي- وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن /66/ البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وتابعهم القرطبي وغيره
وأجاز آخرون رفع الصوت في قراءة القرآن والجهر والتطريب والتغني به لأنه أوقع في النفوس وأسمع في القلوب وهم: أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وعبدالله بن المبارك والنضر بن شميل وأبو جعفر الطبري وأبو الحسن بن بطال وأبو بكر بن العربي وابن قيم الجوزية وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم
وامتد هذا الخلف حتى وصل إلى عصرنا هذا فكتب فيه من كتب كارها مانعا أو مجوزا فممن منعوه وتشددوا في المنع العلامة محمد أبو زهرة وغيره وممن جوزوه العلامة رشيد رضا ولبيب السعيد وأحمد عبدالمنعم البهي وغيرهم "
وقد ذكر لماما تخوفات القدماء فقال :
"وإذا كان بعض الأقدمين قد كرهه استنادا إلى فهمهم لبعض كلمات أو عبارات وردت في بعض الأحاديث وخوفهم من أن بعض القراءات بالألحان قد تؤدي إلى همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءآت فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن فإن بعض المحدثين -مما يؤسف عليه- ذهبوا إلى محاولة نفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن المصطفى (ص)واستدلوا بأحاديث ضعيفة وبنوا أحكامهم عليها وهذه بلية كبيرة "
وتحدث معروف عن كون ثبات الأمر أو نفيه مداره الأحاديث متغافلا تماما عن كتاب الله فقال :
"ومعلوم أن مثل هذه الأمور إنما تثبت أو تنفى بالرجوع إلى سنة المصطفى (ص)ومعرفة صحيحها من سقيمها ودراسة الأحاديث والأدلة التي استند إليها الفريقان "
وانتهى معروف إلى أن أحاديث منع التغنى وهو التطريب والتلحين كلها لم يثبت منها شىء بينما ثبت عنده أحاديث الاباحة فقال :
"وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دراسة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع فثبت عندي من حديثه (ص)ضرورة تحسين الصوت والتطريب والتغني بالقراءة للقرآن الكريم ولم يثبت عندنا حديث واحد في منع ذلك أو كراهته مما يمكن أن ترد به تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة"
واستعرض معروق أدلته في إباحة التغنى فقال :
"فأحببت أن ينتفع بذلك إخواني من محبي كتاب الله والإنصات إليه والحنين إلى سماعه فضلا عما سأسوقه من أقوال الصحابة والتابعين وأدلة العلماء المتشبعين بسنة المصطفى (ص)وما أبينه من العلل في الأحاديث المنسوبة على رسول الله (ص)التي استدل بها بعض العلماء في النكير على من جوز ذلك وإليك دلالات ذلك:
الدليل الأول:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما والنسائي في السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)« لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغني بالقران » /70/
وقد اختلف العلماء في معنى قوله (ص)« يتغنى » على وجهين رئيسين:
أ- الاستغناء به وهو من الاستغناء الذي ضد الافتقار لا من الغناء يقال: تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت وتغانوا: أي استغنى بعضهم عن بعض وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة كما صرح به البخاري وغيره إذ قال بعد أن ساق هذا الحديث من طريق سفان عن الزهري قال: قال سفيان: تفسيره يستغني به وكان يقول في حديث: « ليس منا من لم يتغن بالقرآن »: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره ولم يذهب إلى الصوت ونصره في ذلك أبوعبيد القاسم بن سلام فقال: وهذا جائز فاش في كلام العرب ...
وبهذا أيضا قال وكيع بن الجراح ولعله اختيار محمد بن إسماعيل البخاري لإتباعه ترجمة الباب بقوله تعالى: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } وقال أبوالعباس ثعلب: « الذي حصلناه من حفاظ اللغة في قوله (ص)« كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن » أنه على معنيين على الاستغناء وعلى التطريب قال الأزهري: فمن ذهب به إلى الاستغناء فهو من « الغنى » مقصورة ومن ذهب إلى التطريب فهو من « الغناء » الصوت ممدود
ب- تحسين الصوت والتحزن به والتلذذ والاستحلاء كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفع عنده ما يفعل عند الغناء كما سيأتي مفصلا
وتفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه مردود من عدة وجوه نذكر منها ما يتيسر:
1- إن مسلم بن الحجاج أخرج في صحيحه هذا الحديث بلفظ آخر صرح فيه بحسن الصوت فقال: حدثني بشر بن الحكم قال: حدثنا عبدالعزيز بن محمد قال: حدثنا يزيد وهو ابن العاد عن محمد بن إبراهيم (التيمي) عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به »
2- وروى عبدالأعلى عن معمر عن الزهري في حديث الباب بلفظ: « ما أذن لنبي في الترنم في القرآن » أخرجه الطبري وعنده في روياة عبدالرزاق عن معمر عن الزهري: « ما أذن لنبي حسن الصوت » -أي كما أوردناه من صحيح مسلم ووقع عند ابن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة: « حسن الترنم بالقرآن »
قال الطبري: ومعقول عند ذي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به
3- وأخرجه البخاري هذا الحديث في موضع آخر ومسلم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع النبي (ص)يقول: « ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به »
وأخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه من طريق الليث عن عقيل عن الزهري عن أبي سلمة عبارة « يجهر به » /73/ خارجة عن قول النبي (ص)فقال إثر روايته الحديث: « وقال صاحب له: يريد يجهر به »
قال الحافظ ابن حجر: فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره لاسيما إذا كان فقيها وقد جزم الحليمي أنها من قول أبي هريرة والعرب تقول: سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به ومنه قول ذي الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكني
وقال الطبري: وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا ولو كان كما قال ابن عيينة -يعني: يستغني به عن غيره- لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى
4- وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا لو أراد به الاستغناء لقال: لم يستغن بالقرآن ولكن لما قال: يتغنى بالقرآن علمنا أنه أراد به التغني
5- وقال عمر بن شيبة: ذكر لأبي عاصم النبيل -الضحاك بن مخلد- تأويل ابن عيينة فقال: لم يصنع ابن عيينة شيئا
6- وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال: الاستغناء به لا يحتاج إلا استماع لأن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به 7- قال الطبري: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد بقوله: طويل التغني: طويل الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع: الإقامة من قول العرب: غني فلان بمكان كذا: إذا أقام به ومنه قوله تعالى: { كأن لم يغنوا فيها }
8- وقال الطبري أيضا: ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة وإن كان كذلك فهو غلط من وجهين أحدهما: من اللغة والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه أما اللغة فإن الأذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان فهو يأذن له: إذا استمع وأنصت /76/ كما قال تعالى: { وأذنت لربها وحقت } بمعنى: سمعت لربها وحق لها ذلك كما قال عدي بن زيد:
إن همي في سماع وأذن بمعنى: في سماع واستماع فمعنى قوله: « ما أذن الله لشيء » إنما هو: ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن
9- ومع أن الحافظ ابن حجر حاول جاهدا الدفاع عن تفسير سفيان بن عيينة ومن تابعه لكنه لم ينكر أيضا أنه أيضا بمعنى تحسين الصوت به والجهر والترنم عن طريق التخزين لتظافر ظواهر الأخبار الصحيحة على ترجيح هذا المعنى فقال: « والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن مستغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصوت حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألى طالبا غنى يد والنفس صم الزم
10- وإذا جمعت هذه الآراء والتأويلات إلى الأحاديث الصحيحة التي سوف نسوقها بعد قليل تبين صحة تأويل من قال أنه بمعنى تحسين الصوت والتطريب والغناء المعقول "
صال معروف وجال بين أقوال القوم مثبتا ونافيا من خلال كتب اللغة وهى ليست حجة في الدين لورود الكلمة فيها بمعانى متعددة وهذا هو دليله ألأول في حديثه عن الدليل ودليله الثانى روايات حسن الصوت وهى روايات باطلة لأنها تمنع من صوته ليس بحسن كالصوت الخشن والصوت الرفيع من قراءة القرآن لانعدام حسن الصوت عن البشر وهو ما يناقض وجوب قراءة القرآن من كل المسلمين كما قال تعالى :
" فاقرءوا ما تيسر من القرآن"
ودليله الثالث أقوال الرجال كالشافعى وغيره وكل البشر ومنهم أنا لا قيمة لكلامنا طالما تعارضت مع كتاب الله
ولو استخدمنا كلمة لحن فقد وردت في سياق تحريم الكلام الملحن فهو صفة من صفات المنافقين قال تعالى فيها:
"ولتعرفنهم في لحن القول"
وتحدث عن دليله الثانى فقال :
الدليل الثاني:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحها وأبوداود في السنن من حديث عبدالله بن مغفل قال: « رأيت النبي (ص)يقرأ وهو على ناقته -وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح- أو من سورة الفتح- قراءة لينة يقرأ وهو يرجع »
وبين عبدالله بن مغفل كيفية ترجيعه وأنه آ آ آ ثلاث مرات قال شعبة عن معاوية بن قرة المزني راوي الحديث عن عبدالله بن مغفل: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه قال: « آ آ آ ثلات مرات » أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما
وزعم القرطبي أن ذلك مجموع على إشباع المد في موضعه ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه
وهذا الذي ذهب إليه القرطبي مردود بمن هو أفضل منه في فهم حديث رسول الله (ص)قال العلامة ابن القيم: « أن هذا الترجيع منه (ص)كان اختيارا لا اضطرارا لهز الناقة له فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلا تحت الاختيار فلم يكن عبدالله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيار ليؤتسى به وهو يرى هز الراحلة له حتى ينقطع صوته ثم يقول: كان يرجع في قراءته فنسب الترجيع إلى فعله ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا »
وقال الحافظ ابن حجر متعقبا القرطبي: وهذا فيه نظر لأن في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي: « وهو يقرأ قراءة لينة فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لقرأت ذلك اللحن » وكذا أخرجه أبوعبيدة في « فضائل القرآن » عن أبي النضر عن شعبة "
لو صحت الحديث فالقراءة اللينة تعنى القول السهلة الواضحة والترجيع يعنى التكرار وليس آآآ كما زعموا
والحديث راويه شكك فيه هل قرأ السورة كاملة أو بعضها ومن ثم فهو مردود لعدم معرفة راويه للحدث بالضبط
زد على ذلك أن قراءة القرآنم وهى صلاة لا تكون بصوت مسموع يعرفه الناس وإنما بصوت لا هو جهرى ولا هو سرى وهو ما يعنى عدم معرفة السماع لما يقرأ المصلى كما قال تعالى :
" ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا"
وتحدث عن الدليل الثالث فقال :
الدليل الثالث:
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (ص)لأبي موسى: « لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود »
وأخرج البيهقي بإسناد مسلم نفيه « داود بن رشيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا طلحة عن أبي بردة عن أبي موسى » زيادة أنه قال لرسول الله (ص)« لو علمت لحبرته لك تحبيرا » وقد نص البيهقي على أن هذه هي رواية مسلم ومع أن الزيادة ليست فيه فهي زيادة صحيحة لورودها بالإسناد نفسه فكأنما مسلما اقتصر منه على ما ذكر
وأخرجها ابن سعد أيضا من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم وفيها: وكان حلو الصوت
قال الخطابي: قوله « آل داود » يريد داود نفسه لأنه لم ينقل أن أحدا من أولاد داود ولا من أقاربه كان أعطي من حسن الصوت ما أعطي وداود عليه السلام إليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة
وفي هذا الحديث شبه (ص)حسن الصوت وحلاوة نغمته بصوت المزمار وأصل الزمر: الغناء قال النووي: قال العلماء: المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن وأصله الآلة أطلق اسمه على الصوت للمشابهة "
الحديث باطل فالمزامير لا تنسب لآل داود وإنما تنسب لداود (ص) كما هو معروف
أن كلمة المزمور والمزامير تطلق عند أهل الكتاب على عبارات الكتاب وليس على الصافرة التى تسمى مزمار
أن الله وصف عمل داود(ص) بالتسبيح وليس بالغناء أو بالتزمير فقال :
"وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير"
وأما الدليل الربع عنده فقال فيه:
"الدليل الرابع:
أخرج مالك في الموطأ وأحمد في مسنده والحميدي والبخاري ومسلم في صحيحيهما وابن ماجه وأبوداود /81/ والترمذي والنسائي في سننهم وابن خزيمة في صحيحه من حديث البراء بن عازب قال: « سمعت النبي (ص)يقرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه »
قال الحافظ ابن حجر: ومراده منه هنا: بيان اختلاف الأصوات بالقراءة من جهة النغم"
هذا ليس بدليل تشريعى لأنه لم يصدر من الله ورسوله(ص) وإنما وصف صحابى لصوتا النبى(ص) والوصف ليس حكما وقال :
"الدليل الخامس:
أخرجه البخاري في التوحيد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص)« ليس منا من لم يتغن بالقرآن »
وهذا الحديث أخرجه أبوداود في الصلاة من حديث أبي لبابة بسند قوي وأخرجه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح من حديث سعد بن أبي وقاص
وأخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت /82/ الشافعي يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن فقال له رجل: ليستغني به فقال: لا ليس هذا معناه معناه: يقرؤه حدوا وتحزينا
وذكر أبوداود في روايته أن عبدالجبار بن الورد قال لابن أبي مليكة عند روايته للحديث: يا أبا محمد أرأيت أن لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع
وقال أبوسعيد ابن الأعرابي في هذا الحديث: كانت العرب تتغنى بالركباني إذا ركبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي (ص)أن تكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني "
هذا الدليل هو اعادة للدليل الأول وقد سبق مناقشته لأنه يستدل بنفس الحديث وقال:
الدليل السادس:
عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله (ص)« لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته » والقينة: المغنية
قلت: هذا حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم قال حديثنا الأوزاعي قال حدثنا إسماعيل بن عبيدالله عن ميسرة مولى فضالة فذكره /83/
وقد صرح الوليد بن مسلم بالسماع من الأوزاعي فهو ثقة عند تصريحه وإسماعيل ثقة وميسرة مولى فضالة وثقه ابن حبان وذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبعة العليا التي تلي الصحابة ولم نجد فيه جرحا
وأيضا فهو متابع عليه فقد أخرج البيهقي من طريق العباس بن الوليد بن مزيد وهو صدوق عن أبيه وهو ثقة ثبت عن الأوزاعي به ولكن ليس فيه (عن ميسرة) فرواه عن فضالة بن عبيد مباشرة وفي سماعه منه نظر كما قال المزي في تهذيب الكمال على أن المتن صحيح لما ذكرنا أولا وإن سقط اسم ميسرة من مسند أحمد فهو في الأصل كما نص على ذلك الحافظ ابن كثير في جامع المسانيد والسنن كما حققناه في مسند فضالة بن عبيد من كتابنا المسند الجامع "
الحديث اتهام صريح لله بتهمتين :
الأولى التجسد بوجود عضو سمعى هو أذن لله وهو ما ينفيه عدم شبهه بالحلق في قوله تعالى:
" ليس كمثله شىء"
الثانية أن الله يسمع حسب هواه فينصت لشىء أكثر من شىء وهو ما يناقض أنه يسمع كل شىء بطريقة واحدة لذلك اسمه السميع وقال :
الدليل السابع:
أخرج أحمد في مسنده والدارمي في سننه والبخاري في /84/ خلق أفعال العباد وأبوداود(8) وابن ماجه والنسائي(10) في سننهم وابن حبان(11) في صحيحه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي من حديث البراء بن عازب أن رسول الله (ص)قال: « زينوا القرآن بأصواتكم »
وهو حديث صحيح ومعناه تحسين الأصوات عند القراءة فإن الكلام الحسن يزيد حسنا وزينة بالصوت الحسن وهو أمر مشاهد ولكن لما رأى بعضهم أن القرآن أعظم من أن يحسن بالصوت بل الصوت أحق بأن يحسن بالقرآن قال: معناه زينوا أصواتكم بالقرآن وزعم بعضهم أنه من باب القلب فقد رواه معمر عن منصورعن طلحة: زينوا أصواتكم بالقرآن
على أن الأمر بالتزيين -كما أورده القرطبي عن بعضهم- هو اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك: أي زينوا القراءة بأصواتكم فيكون القرآن بمعنى القراءة كما قال تعالى: { وقرآن الفجر } أي قراءة الفجر وقوله تعالى: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي: قراءته
ومع أن البخاري علق هذا الحديث في كتاب التوحيد من صحيحه لإثبات كون التلاوة فعل العبد فيدخلها التزيين والتحسين والتطريب من فعل القارئ وتتصف بما تتصف به الأفعال فإنه يدل في الوقت نفسه على جواز التزيين والتحسين والترجيع والتطريب فالمراد واحد إن شاء الله "
الحديث باطل المعنى وإنما زينة القرآن هى طاعته وأما ترديده ترديد المغنيين الملحنين المطربين فهو إثم عظيم فالقرآن نزل لطاعته وليس للتغنى الكلامى به كما قال تعالى :
"وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"
فما الفائدة من ذلك الترديد الكلامى إذا كنا نعصى الله ؟
وقال :
الدليل الثامن:
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (ص)« تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل »
قال بشار: هذا حديث صحيح رجاله رجال مسلم زيد بن الحباب تكلم بعضهم في حديثه عن الثوري فهو ثقة في غيره خبر ابن عدي أحاديث فوجدها مستقيمة وقال: وهو من أثبات مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه»
وموسى بن علي بن رباح اللخمي المصري ثقة وثقه البخاري وابن سعد ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والعجلي وأبو حاتم الرازي والنسائي وابن /87/ حبان(8) والذهبي وما أظن الحافظ ابن حجر أصاب حينما قال في التقريب: صدوق ربما أخطأ(10)
أما أبوه علي بن رباح فهو من ثقات التابعين المعروفين لا يحتاج إلى بيان
وأخرجه من طريق موسى بن علي عن أبيه: أحمد والدارمي والنسائي في « فضائل القرآن واللفظ له-: « تعلموا القرآن وتغنوا به واقتنوه والذي نفسي بيده له أشد تفلتا من المخاص في العقل »
وأخرجه أحمد والنسائي في « فضائل القرآن » من طريق قباث بن رزين -وهو صدوق- عن علي بن رباح فتابع موسى في روايته عن أبيه /88/
وقد جاء في بعض الروايات مقتصرا على قوله: « واقتنوه » من غير قوله « وتعنوا به » فقال قباث: ولا أعلمه إلا قال: وتغنوا به وفي رواية أخرى قال: وحسبته قال: وتغنوا به "
الحديث إن صح فالتغنى بالقرآن يعنى العمل به أو طاعته أو على أقل تقدير تدبره وهو فهمه لطاعته كما قال تعالى :
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته"
وقال :
"الدليل التاسع:
أخرج أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وفي خلق أفعال العباد وأبوداود وابن ماجه والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث قتادة قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي (ص)قال: كان يمد مدا وفي رواية أخرى عن قتادة: سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي (ص)فقال: كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم"
والمد ليس من التغنى وهو التلحين لأن المد هو هنا مد ألف المد أى فتحها ومد الياء يعنى كسرها والمراد نطق حرف المد قدر نطق الحرف ألأخر مرتين في الزمن للفهم فلو نطقت الرحمن الرحمن وليس الرحمان لكان المعنى مختلفا
وبعد أنتهى معروف من أدلته الواهية نقل لنا أقوال تتعارض مع حكاية التغنى فذكر أحاديث التباكى والتحزن عند قراءة القرآن فقال :
"إضاءة:
وقد كان السلف يحبون الصوت الحسن ويطربون لقراءته فتكون قراءته أوقع في قلوبهم وأحلى قال: أبوعثمان النهدي: « ما سمعت مزمارا ولا طنبورا ولا صنجا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري إن كان ليصلي بنا فنود أنه يقرأ البقرة من حسن صوته » لذلك كان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا فيقرأ أبوموسى
وروي أن أسيد بن الحضير أحد النقباء الإثني عشر ليلة العقبة كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن
وذكر حنظلة بن أبي سفيان عن عبدالرحمن بن سابط عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استبطأني رسول الله (ص)ذات ليلة فقال: « ما حبسك؟ » قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوتا بالقرآن فأخذ رداءه وخرج يسمعه فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة فقال: « الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك » /90/
والمسلمون يستحبون البكاء وخشوع القلب عند سماع القرآن قال تعالى: { خروا سجدا وبكيا }
وعقد البخاري في فضائل القرآن من صحيحه بابا للبكاء عند قراءة القرآن
وقال العزالي: « يستحب البكاء مع القراءة وعندها وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف يتأمل القارئ ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزنه لا محالة ويبكي »
وقال النووي: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين
وقال الحافظ ابن حجر ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم لأن للتطريب تأثير في رقة القلب وإجراء الدمع "
وناقش أدلة المحرمين فقال :
"أما المانعون فاستدلوا بأحاديث لا تثبت عن المصطفى (ص)منها:
1- ما قيل إن حذيفة بن اليمان روي عن النبي (ص)أنه قال: « اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم »
رواه أبو الحسن رزين في تجريد الصحاح ورواه أبوعبدالله الحكيم الترمذي في نوادر الأصول واحتج به القاضي أبو يعلى في "الجامع" وأخرجه الطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث بقية بن الوليد عن الحصين الفزاري عن أبي محمد عن حذيفة
قلت: لا يصح فبقية يدلس عن الضعفاء وقد عنعن والحصين بن مالك الفزاري ليس بمعتمد قال الذهبي في الميزان: « الحصين بن مالك الفزاري عن رجل عن حذيفة « اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها » تفرد عن بقية ليس بمعتمد والخبر منكر وأبو محمد مجهول ففيه ثلاث علل »
2- واستدلوا بحديث عابس بن عبس الغفاري في شرائط الساعة فذكر أشياء منها: « أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء »
أخرجه أحمد في مسنده من حديث شريك عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان عن عليم عن عابس وسنده ضعيف لضعف أبي اليقظان وأخرجه الطبراني وابن شاهين من طريق موسى الجهني عن زاذان قال: كنت مع رجل من أصحاب النبي (ص)يقال له عابس أو ابن عابس وذكر الحديث من غير ذكر عليم ولم يضبط الصحابي ومدار الحديث على زاذان وهو متكلم في عقيدته كان كثير الكلام كما في ضعفاء العقيلي والتهذيب وغيرهما وأيضا: فإنني لم أجد أحدا من أهل العلم ذكر أن موسى الجهني /94/ قد روى عن زاذان فلا يحتج بمثل هذا الحديث المضطرب السند تجاه الأحاديث الصحيحة التي سقناها
3- وقالوا: وقد منع النبي (ص)المؤذن المطرب في أذانه من التطريب واستدلوا بحديث أخرجه الدارقطني في سننه من حديث ابن عباس قال: كان لرسول الله (ص)مؤذن بطرب فقال النبي (ص)« إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن»
قلت: هذا حديث ضعيف جدا ففي سنده إسحاق بن أبي يحيى الكعبي: ضعفه الدارقطني نفسه وعد الذهبي حديثه هذا عن ابن جريج من أوابده وقال في الميزان: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات
4- واستدلوا على كراهية أنس بن مالك للتطريب بالقرآن ما روي عن زياد النميري أنه جاء مع القراء إلى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ فرفع صوته وطرب وكان رفيع الصوات فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء فقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه /95/
ولم نعرف لهذا الخبر راويا عن أنس غير زياد بن عبدالله النميري فعليه مدار الحديث وهو ضعيف قال يحيى بن معين: ضعيف الحديث وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عنه فضعفه
وقال أبو حاتم: « يكتب حديثه ولا يحتج به وذكره ابن حبان في كتابه "الثقات" أولا وقال يخطئ ثم عاد فذكره في "المجروحين" وقال: منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات لا يجوز الاحتجاج به تركه يحيى بن معين » وقال الدار قطني في السنن: ليس بالقوي وضعفه الحافظان: الذهبي وابن حجر وكفاك بهما "
الرجل هنا ذكر المتكلم فيهم في أحاديث المانعين مع وجود أمثالهم في أحاديثه المبيحة
وانتهى معروف إلى أن رأى ابن حجر هو الرأى الصحيح وهو اعتقاده فقال :
"القول الفصل:
بعد كل هذا الذي قدمنا نرى من المفيد أن نقتبس خلاصة رأي واحد من أعاظم المحدثين الفقهاء ممن تشبعوا بالهدي النبوي وعرفوه حق معرفته في هذه المسألة هو حافظ عصره ابن حجر العسقلاني وهو خلاصة هذا البحث وهو الذي نعتقده ونؤمن به لما تحصل عندنا من الأدلة
قال الحافظ ابن حجر: « والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح
ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءآت فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء ولعل هذا مستند من كرة القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء"
والبحث وما بنى عليه باطل فالقرآن نزل لقراءته قراءة عادية لفهمه ومن ثم طاعته ولم ينزل ليكون مجرد أقوال ملحنة مطربة لا يفهم سامعها معناها والايمان بصحة رأى الإباحة دفع المفسدين من أهل التلحين والغناء الموسيقى أن يحولوا كتاب الله لأغانى وقد شهد اهل العصر على فعل بعض المعنيين والملحنيين للأمر