تجدد الحديث حول مستقبل الصادرات النفطية السعودية إلى الولايات المتحدة في ظل رئاسة دونالد ترمب، وبرنامجه لزيادة الإنتاج الأميركي من النفط، بموازاة مطالبته المملكة و"أوبك" بخفض الأسعار. وتذهب توقعات بعض المحللين إلى أن الدولة صاحبة الاقتصاد الأكبر عالمياً تقترب من الاستغناء نهائياً عن واردات الخام من المملكة. في المقابل يرى محللون آخرون أن هذا الانخفاض مرده إلى توجه استراتيجي للسعودية نحو أسواق آسيا حيث يوجد الطلب بشكل أكبر على النفط.
انخفاض الصادرات السعودية نحو أميركا لم يكن وليد السنوات الماضية، بل بدأ مع توجه الولايات المتحدة قبل عقود مضت لزيادة الإنتاج محلياً، وتفضيلها لإمدادات قريبة لخفض التكلفة خصوصاً من كندا والمكسيك وفنزويلا. أمام هذا الوضع، زاد توجه النفط السعودي نحو أسواق متنوعة، على رأسها آسيا حيث الصين تُعتبر أكبر مستهلك في العالم وتُعد مشترياتها مؤشراً على الطلب على النفط على المستوى العالمي.
لماذا انخفضت صادرات النفط السعودية إلى أميركا؟
لعبت السعودية دوراً فاعلاً في استقرار إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية منذ بدأت التصدير عام 1939، بفضل امتلاكها احتياطي يُقدّر بأكثر من 264 مليار برميل، ولكونها أكبر مصدّر للخام عالمياً، حيث وفرت الوقود اللازم لتطور الصناعات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وظلت لعقود المصدر الرئيسي للأسواق الأميركية، لكن بدء الولايات المتحدة بإنتاج النفط الصخري تسبب في تراجع الواردات بوتيرة متسارعة.صدّرت السعودية 490 مليون برميل إلى الولايات المتحدة في 2012، أي حوالي 1.4 مليون برميل يومياً. أما في 2023، فلم تتجاوز الصادرات السعودية للعام 127.3 مليون برميل، بمتوسط 353 ألف برميل يومياً، حسب بيانات إدارة معلومات الطاقة. في حين وصلت هذه الصادرات إلى 273 ألف برميل يومياً العام الماضي، وفق نشرة "ميس" (MEES) التي تركز على أخبار الطاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ترى جينا ديلاني، مديرة الخام العالمي في "رابيدان إنرجي" (Rapidan Energy) أن النمو في الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة كان أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض صادرات النفط السعودي، حيث تمكنت المصافي المحلية من الحصول على المزيد من البراميل محلياً وهو ما خفض الحاجة إلى الواردات المنقولة عبر البحر.
في نظر إحسان الحق، محلل في مجال الطاقة، فإن التغيير في صادرات النفط السعودي نحو أميركا وراءه أربعة عوامل رئيسية، أولها زيادة الإنتاج المحلي في أميركا من 10 ملايين برميل يومياً إلى 13.5 مليون برميل، وثانياً ارتفاع صادرات كندا النفطية من 3 ملايين برميل يومياً عام 2017 إلى 4 ملايين برميل، وثالثاً توجه السعودية إلى آسيا واعتبارها السوق الرئيسية، إضافة إلى نمو طاقة التكرير السعودية إلى 3.3 مليون برميل يومياً، مقابل 2.8 مليون برميل قبل ثماني سنوات.
تقليص الواردات النفطية هدف الرئيس بوش
لم يقتصر تقلص الواردات الأميركية على تلك الواردة من المملكة، حيث تضاعف إنتاج الولايات المتحدة بعد ثورة النفط الصخري وازداد إنتاجها للنفط من 6.4 مليون برميل يومياً في 2012، إلى 13.33 مليون، بحسب تقرير منظمة "أوبك" لشهر ديسمبر. وقد مكن زيادة الإنتاج المحلي في أميركا في تحقيق بعض الاستقلالية بحسب عبدالله القاضي، المدير التنفيذي ورئيس شركة نفط الهلال في العراق، حيث قال في حديث لـ"الشرق" إن توفر موردين قريبين بجوار الولايات المتحدة ساهم في هذا الانخفاض.في الواقع، كان مسعى واشنطن لتقليص وارداتها من النفط هدفاً منذ عقود، فالرئيس الأسبق بوش قال في خطاب شهير عن حالة الاتحاد عام 2006 إن بلاده "مدمنة على النفط"، وحدد هدفاً لاستبدال 75% من واردات النفط السعودية ودول الشرق الأوسط بحلول عام 2025. قال الكاتب في الشأن النفطي في "بلومبرغ" خافيير بلاس إن "قلائل فقط اعتقدوا أن هذا كان واقعياً لأن العلاقات بين البلدين كانت في أوجها، بتجاوز الواردات 1.5 مليون برميل يومياً في 2006".
تشير الأرقام إلى ارتفاع استيراد الولايات المتحدة للنفط من كندا بعد إنشاء خط أنابيب "TMX" الذي يربط البلدين والذي تم تدشينه في بداية 2024، إذ تصل الطاقة التصديرية للأنبوب إلى 900 ألف برميل كل يوم، ما ساهم في تقليص كافة المصافي الأميركية في الساحل الغربي لوارداتها من النفط لصالح استخدام الخام المحلي والكندي. أمام هذا الوضع، يرى عماد الخياط، كبير المحللين الاقتصاديين السابق في "أوبك"، أن نفط الشرق الأوسط يأتي في المرتبة الثانية من حيث التنافسية في السوق الأميركية، فيما يمتلك النفط القادم من كندا والمكسيك وفنزويلا أفضلية بحكم قرب المسافة وبالتالي انخفاض تكلفة الشحن.
السعودية تفضل التوجه نحو أسواق آسيا
هل تخلت أميركا عن نفط السعودية أم أن السعودية اختارت التوجه شرقاً؟ تختلف القراءات، لكن عدداً من المحللين يتفقون على أن السعودية اتخذت منذ مدة قراراً استراتيجياً بالتوجه لأسواق الشرق نحو آسيا حيث ينمو الطلب بشكل أكبر على النفط. نوه الخياط في حديث لـ"الشرق" أن السعودية ودولاً أخرى مصدرة للنفط في الشرق الأوسط اتخذت قراراً استراتيجياً منذ بداية الألفية بالتركيز على سوق آسيا اعتماداً على توقعات بأنه سيكون مركز ثقل الطلب العالمي على النفط، وأضاف: "بالفعل صدقت تلك التوقعات وتمكنت السعودية من الاستحواذ على حصة كبيرة في سوق آسيا وقامت باستثمارات وشراكات في مجال إنشاء المصافي في آسيا".ارتفعت صادرات المملكة إلى الصين من 1.13 مليون برميل يومياً في 2018 إلى 1.58 مليون برميل يومياً خلال الأشهر الـ11 الأولى من 2024، بحسب نشرة "ميس". كما زادت صادراتها إلى الهند من 788 ألف برميل يومياً إلى 815 ألف برميل يومياً خلال نفس الفترة. كما سجلت الصادرات النفطية السعودية إلى السوق الأوروبية قفزة بنسبة 47% منذ يوليو 2023 حتى الآن، بحسب نشرة "ميس" العالمية، نتيجة الاضطرابات الجيوسياسية في البحر الأحمر.
اللافت أن زيادة الإمدادات لهذه الأسواق جاءت وسط تخفيض المملكة صادراتها التزاماً بقرارات تحالف "أوبك+" الذي تقوده فعلياً بالمشاركة مع روسيا، حيث تراجعت الصادرات السعودية للنفط الخام في 2024 إلى أقل قليلاً من 6 ملايين برميل في اليوم، وهو أدنى مستوى منذ 2010 كما ذكرت "ميس" في آخر إصداراتها.
يوضح الخياط أن "تخلي السوق الأميركية على النفط السعودي لم يؤثر كثيراً على الطلب في المملكة، إذ ساعد التوجه نحو السوق الآسيوية السعودية على زيادة عائداتها من تصدير النفط مقارنةً فيما لو كانت تلك الكميات قد وجدت طريقها إلى السوق الأميركية. بدوره يشير فهد بن جمعة، عضو لجنة الاقتصاد والطاقة في مجلس الشورى السعودي سابقاً، أن تراجع صادرات النفط نحو الولايات المتحدة لا يعني أنه يفقد أهميته في أسواق النفط العالمية، وأضاف في حديث لـ"الشرق": "السعودية لديها طاقة إنتاجية كبيرة وهي أكبر مصدر للنفط، وثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم. لذا فهي تستطيع التأثير على الأسعار العالمية من خلال مرونة عرضها".
ما زالت الولايات المتحدة تستورد أكثر من 6 ملايين برميل يومياً من النفط، وفي حالة تراجع إنتاج النفط الكندي والمكسيكي على وقع التعريفات المرتقبة أو حتى الإنتاج الأميركي، فإن الملاذ الآمن هو العودة إلى استيراد النفط السعودي بكميات كبيرة، بحسب بن جمعة.
تراجع أعداد الزبائن في السوق الأميركية
يعتبر المحلل النفطي المعروف خافيير بلاس أن عصر اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي شارف على نهايته، استناداً إلى انخفاض الواردات بنسبة 85% خلال العام الماضي، مقارنةً بأعلى مستوى وصلت إليه عام 2003 حين كانت صادرات الخام السعودي تتدفق إلى السوق الأميركية بمعدل 1.7 مليون برميل. ويفيد أن إحدى المصافي الخمس التي تستورد الخام السعودي ستغلق أبوابها خلال 2025، ما سيترك أربعة زبائن فقط للمملكة في الولايات المتحدة، بعدما كان عددها 25 مصفاة تعتمد على الخام السعودي قبل عقدين من الزمن.في المقابل، يقرأ فيكتور كاتونا، رئيس محللي النفط في "كبلر" (Kpler) هذا التغير بأن السعودية ليست متحمسة بشكل خاص للأسواق الأميركية لأن آسيا هي السوق الأساسية بالنسبة لهم، حيث يذهب حوالي 80% من جميع الصادرات السعودية إلى آسيا.
رغم ذلك، لا زالت الصادرات النفطية تتدفق إلى السوق الأميركية، والفضل في ذلك يعود، حسب خافيير، لامتلاك السعودية لمصفاة هي الأكبر في "بورت أرثر" في تكساس وتُدعى "موفيتا" (Motiva) بطاقة إنتاجية تبلغ 600 ألف برميل يومياً، استحوذت "أرامكو" عليها بالكامل في 2017، بعد أن كانت تملكها مناصفة مع شركة "شل". ولا تزال المملكة تمول المصفاة بالنفط السعودي.
الاعتماد على الإنتاج المحلي في أميركا قد لا يكون حلاً دائماً ومجدياً للتخفي عن الواردات، إذ يتوقع كاتونا في حديث لـ"الشرق" أن يبلغ النفط الصخري الأميركي ذروته في الربع الرابع من عام 2025 والربع الأول من عام 2026، وبعد ذلك يبدأ الإنتاج الأميركي في الانخفاض، وبالتالي ستزيد حصة الواردات.
عودة ترمب والتأثير على النفط السعودي
مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يتجلى من التصريحات الأولية أن العلاقات بين البلدين ستستمر على مسار جيد كما في العقود الثمانية الماضية، ويرجح المحللون عدم تأثير سياسات ترمب الموعودة على الواقع الحالي. يعتقد إحسان حق أن "العلاقة بين واشنطن والرياض ستتحسن في عهد الرئيس ترمب، لكن ذلك لا يعني زيادة تدفقات النفط السعودي نحو أميركا، لأن الرياض تعتبر آسيا سوقاً متزايدة الطلب وستواصل إرسال المزيد إليها مقارنة بالغرب".رأي إحسان حق يتشاركه أيضاً كاتونا، حيث قال إنه من غير المرجح أن تغير سياسة ترمب لزيادة الإنتاج من الواقع بشكل كبير، ويعتبر أنه لم يكن هناك ما يمنع شركات النفط الأميركية من الحفر بالقدر الذي تريده في عام 2023 أو 2024 وهي لم تفعل لأنها مهتمة بالانضباط الرأسمالي وتحقيق عوائد للمساهمين.
بدوره أشار كلوديو غاليمبيرتي، كبير الاقتصاديين ومدير قسم أسواق الطاقة في "ريستاد إنرجي" (Rystad Energy)، إلى أن "شركات التكرير الأميركية تتمتع بحرية اختيار موردي الخام بناءً على السوق. وما لم تحظر إدارة ترمب الخام السعودي، وهو أمر غير مرجح للغاية حتى الآن، فسوف تستمر في اتخاذ قرار الشراء بناءً على ظروف السوق، ولذلك تزيد المملكة العربية السعودية صادراتها من الخام إلى آسيا".
بينما رجح عبد الله القاضي استهداف السعودية للمصافي الأوروبية والأسواق الصينية والهندية بالأساس، وقال إن "ترمب سيعزز تطوير النفط والغاز محلياً"، ويخلص إلى القول أنه "مع وجود مصادر قريبة لن يكون النفط العربي الخفيف ضرورياً للمصافي الأميركية اعتباراً من عام 2025"