- المشاركات
- 19,998
- الإقامة
- تركيا
تأرجح سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) صعودا وهبوطا، منذ طرحها للتداول قبل 17 عاما، كشأن سائر العملات. لكن الاختلاف أن اليورو استمد أهميته من قيمته المعنوية لا المادية فحسب.
يتميز اليورو عن سائر العملات بأنه يجسد تطلعات عالية وأهدافا سياسية مثالية، قد نكون في أمسّ الحاجة إليها الآن في ظل تفاقم أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واشتداد حدة التوترات التي تخيم على القارة الأوروبية.
وخرجت العملة الأحدث في العالم إلى النور بعد مخاض عسير دام لعقود، شهدت اجتماعات ومباحثات ومفاوضات واتفاقيات وسجالات بين سياسيين وموظفين حكوميين، وهذا النوع من القصص قد يثير شغف المؤرخين الاقتصاديين. والأغرب من ذلك هو قصة الرمز الذي عرف به اليورو حول العالم، والذي ظل محل نزاع لسنوات.
في البداية، اختير اسم العملة الجديدة في مدريد عام 1995، من بين الكثير من الأسماء المقترحة الأخرى، منها "دوكات"، اسم العملة الذهبية الأوروبية القديمة التي تردد ذكرها في بعض مسرحيات شكسبير. ويقال إن كلمة "يورو" اقترحها مدرس بلجيكي شغوف بلغة إسبرانتو العالمية. وكان المعيار في الاختيار هو أن يكون الاسم موحدا في جميع اللغات الأوروبية الرسمية، بحيث لا يختلف نطقه من لغة لأخرى، وكان الاتساق هو المعيار أيضا في اختيار الرمز الذي يمثلها.
وخلافا لرموز العملات الأقدم التي طورتها الشعوب على مر قرون، فإن رمز اليورو صممته لجنة انعقدت خصيصا لهذا الغرض، ووضعت ثلاثة شروط أساسية لاختيار الرمز المناسب، كان في مقدمتها أن يكون رمزا أوروبيا بارزا ومألوفا، وأن يكون مشابها لرموز العملات المتداولة المعروفة، وفي الوقت نفسه أن يكون مقبولا ومستساغا من حيث الشكل، وتسهل كتابته.
وجمعت المفوضية الأوروبية قائمة من 30 تصميما، انتقت منها 10 تصميمات وعرضتها على الشعب للتصويت على التصميم المفضل. وتربع على رأس القائمة تصميمان، عُرضا على رئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك سانتر، ومفوض الشؤون الاقتصادية والمالية إيف ثيبو دي سيلغاي ليختارا منهما واحدا.
وأزيح الستار عن الرمز الذي حاز قبول الجميع في ديسمبر/كانون الأول عام 1996، ولاقى ترحيبا من صحيفة "ذا يوروبيان"، التي توقفت في الوقت الحالي، وذكرت الصحيفة أن الرمز "دقيق وقوي، يشبه فطائر البريتزل القادمة من المستقبل".
لكن الرمز أثار بعض الالتباس لدى آخرين. إذ ظن البعض أنه حرف C بالإنجليزية يقطعه قضيبان أفقيان، لكنه في الحقيقة كان مستلهما من الأبجدية الإغريقية، ولا سيما حرف "إيبسيلون"، تعبيرا عن الاعتزاز بالحضارة الأوروبية وتأكيدا للاستمرارية التاريخية، وكان التشابه بالحرف "E" بالإنجليزية أيضا مقصودا ليرمز إلى الحرف الأول من كلمة أوروبا.
والمفارقة أنه في عام 2010، مثلت أزمة ديون اليونان، التي استوحي من تاريخها رمز اليورو، تهديدا لاستقرار منطقة اليورو بأكملها. كما يدل الخطان المتوازيان اللذان يجتازان رمز اليورو على الاستقرار.
والعجيب أن الرمز الذي كان ينافس رمز اليورو الحالي من حيث الشعبية، لا يمكن أن تجد له أي أثر الآن. إذ اختفى هذا الرمز تماما حتى عبر الإنترنت، وكأن رمز اليورو كان مقدر له سلفا أن يتخذ شكله الحالي.
ويحيط الغموض بإجراءات "استشارة الشعب" عند اختيار رمز اليورو، وهذا قد يستدعي تساؤلات حول عدد مواطني الاتحاد الأوروبي الذين صوتوا على الاختيار وجنسياتهم. ولا تزال أيضا هوية الشخص الذي صمم رمز اليورو الحالي، محل جدال. إذ يزعم أربعة أشخاص أن التصميم الفائز- الذي أصبح مألوفا عالميا بين عشية وضحاها- كان من ابتكارهم.
واهتمت اللجنة بالتصميم الهندسي لرمز اليورو، ودقة أبعاده، وحددت ألوانا معينة للرمز والخلفية. وعندما قرر المسؤولون استصدار براءة اختراع لحماية الرمز، أصبح اليورو أول رمز لعملة في العالم محمي بحق المؤلف.
وكل هذا بالطبع لم يرض خبراء الطباعة، الذين كلفوا بمهمة لم تكن في الحسبان، إذ كان عليهم إدخال رمز جديد وسط حروف الطباعة. وواجهت تطبيقات الكمبيرتر أيضا صعوبات عديدة، أدت إلى وقوع أخطاء في حسابات تحويل العملة بسبب ظهور علامة استفهام بدلا من رمز اليورو.
وطُرح اليورو في البداية كعملة غير نقدية، للتحويلات عبر الإنترنت على سبيل المثال، في مستهل شهر يناير/كانون الثاني من عام 1999. لكن عندما طبعت 14.25 مليار ورقة نقدية وسُكّت 50 مليار عملة معدنية في عام 2011، تمهيدا لضخها في أسواق 11 دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي في العام اللاحق، عرقلت مشكلتان غريبتان خطط الاتحاد الأوروبي.
إذ وجهت انتقادات لرمز اليورو بسبب التشابه الكبير بينه وبين شعار شركة "كومودور" الأمريكية للإكترونيات، واتهمت شركة "ترافيليكس" البريطانية للصرافة المفوضية الأوروبية بالتعدي على حقوقها في ملكية علامتها التجارية، زاعمة أنها تستخدم شعارا يكاد يكون متطابقا لرمز اليورو في جميع مراسلاتها بين أحد فروعها وبين شركائها التجاريين منذ عام 1989. وحكمت المحكمة لصالح المفوضية الأوروبية وواجهت شركة "ترافيليكس" غرامة باهظة بعملة اليورو.
وبعد بضعة أشهر، أعلن أرثر أيزنمنغر من منزله الذي يقضي فيه سنوات التقاعد جنوبي ألمانيا، أنه ابتكر هذا الشعار منذ أكثر من 25 عاما مضى، بينما كان يعمل كبير مصممي الغرافيك في الجماعة الاقتصادية الأوروبية سابقا التي أصبحت فيما بعد تسمى بالجماعة الأوروبية.
وقد أشرف أيزنمنغر على تصميم شعار العلم الأوروبي المكون من حلقة من النجوم، وتصميم علامة مراقبة الجودة الأوروبية التي توضع على السلع الاستهلاكية الأوروبية. ويدّعي أنه ابتكر رمز اليورو بوصفه شعارا لأوروبا بشكل عام. وذكر أيزنمنغر في حوار لصحيفة الغارديان: "لم أكن أفكر حينها في اليورو، بل كنت أريد تصميم رمز لأوروبا".
لكن بغض النظر عن الهدف من وراء تصميمه أو الجهة أو الشخص الذي صممه، فإن رمز اليورو أصبح بالفعل رمزا لأوروبا كما كان يراد له منذ البداية. إذ تجاوزت عملة اليورو وعلم الاتحاد الأوروبي وأنشودة الفرح غاياتها العملية، وأصبحت رمزا للمشروع الأوروبي.
ولعل الشاهد على نجاح رمز اليورو في تحقيق أهدافه، هو أنه أصبح يستخدم في أغراض متعددة، حتى أنك قد تراه الآن على اللافتات التي يرفعها مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.