ارتادوا جامعات النخبة، واستقطبتهم كبرى الشركات في "وول ستريت"، وعملوا بجد لسنوات حتى ارتقوا في المناصب. ثم، وقبل أن ينهار كل شيء، قرروا القفز إلى عالم العملات المشفرة.
كانت مخاطرة مهنية كبيرة، ونُظر إليها قبل فترة ليست بطويلة على أنها تبدو فاشلة، إذ انهارت شركة "إف تي إكس دوت كوم" (FTX.com)، وانخفضت قيمة بتكوين إلى ما دون 16 ألف دولار. بدت عائلاتهم وأصدقاؤهم وزملاؤهم السابقون وكأنهم توصلوا إلى نفس الاستنتاج: لقد ارتكبتم خطأً كبيراً.
الارتفاعات الكبيرة لبتكوين
غيرت الارتفاعات الكبيرة في سعر بتكوين هذا التصور. فقد أدى فوز دونالد ترمب بالانتخابات في نوفمبر الماضي إلى ارتفاع أسعار العملات المشفرة، ما شكل ترضية لأولئك الذين تركوا وظائفهم ذات الرواتب المرتفعة في "وول ستريت" من أجل العملات المشفرة ونجوا من هذه المغامرة. تعاود شركات تشغيل منصات بلوكتشين (سلسلة الكتل)، التوظيف، ويمول المستثمرون مشاريع جديدة، ويشهد القطاع انتعاشاً كبيراً.بيّن فيفيك رامان، الذي يؤسس شركة تُسمى "إِيثريالايز" (Etherealize) تهدف إلى ربط "وول ستريت" بمنظومة "الإيثريوم": "عاد الاهتمام بالقطاع مجدداً، بعد أن غيرت سنة 2024 كل شيء".
أمضى رامان، 35 عاماً وخريج جامعة ييل، ما يقارب العقد في تداول الائتمان في بعض من أعرق مؤسسات "وول ستريت" –مثل "مورغان ستانلي" و"يو بي إس" و"دويتشه بنك" و"نومورا"– قبل أن يقبل انخفاض راتبه 75% للعمل في قطاع بلوكتشين خلال دورة الازدهار الأخيرة. بعد أن اكتشف "إيثريوم"، لم يستطع التوقف عن طرح سؤال واحد: "لماذا لا نتداول السندات على منصة بلوكتشين؟"
رامان وآخرون ممن تركوا مجال التمويل التقليدي، أو ما يسمونه اختصاراً (TradFi) من أجل العمل في العملات المشفرة، هم من يمكن وصفهم بـ"المؤمنين الحقيقيين". إنهم ليسوا المضاربين الجريئين الذين يتبادرون إلى الأذهان عادة عند التفكير في مستثمري العملات المشفرة. وبعد أن تخطوا آخر "دورة هبوط للعملات المشفرة"، يشعرون بالحماس تجاه موجة الصعود الحالية، حتى وإن كان ممزوجاً ببعض الواقعية.
خذ على سبيل المثال باتريك ليو -32 عاماً- الذي يقول إن فترة "تراجع العملات المشفرة" كانت "كارثية". أمضى ليو 8 سنوات في وظيفة متداول في شركة "بلاك روك" قبل أن تجذبه التقلبات الكبيرة في أسواق العملات المشفرة. في يومه الأول، تجاوز سعر بتكوين 50 ألف دولار.
انهيار سوق العملات المشفرة
ثم جاء 2022، عندما انهارت السوق، وأصبح الذهاب إلى العمل أمراً مشحوناً بالتوتر. توقف زملاء ليو عن الحضور إلى المكتب. وفي بعض الأحيان، كان يشعر بالحرج حين يخبر الآخرين بأنه يعمل في مجال العملات المشفرة.قال ليو: "لن أكون صادقاً إذا قلت إنه لم تكن هناك لحظات شعرت فيها بالشك، وفكرت في العودة إلى وظيفة مستقرة في قطاع التمويل التقليدي مجدداً. لكنني أعتقد أن الأمر يتطلب إيماناً وشجاعة للاستمرار فعلاً".
يشغل ليو الآن منصباً كبيراً في "جيميني" (Gemini)، منصة تداول العملات المشفرة. مؤخراً، تلقى رسالة نصية من صديق يخبره أن العملة المشفرة التي أقنعه بشرائها قبل 3 سنوات قد تضاعفت قيمتها 3 مرات، كما اتصل به أحد الذي ساعدوه في أول وظيفة حصل عليها بعد التخرج لتهنئته. في اليوم الذي بلغ فيه سعر بتكوين 100 ألف دولار، توجه ليو إلى "بابكي"، وهو بار في نيويورك يحمل تصميمه طابع العملات المشفرة.
قال مازحاً: "أخيراً أقنعت زوجتي بالذهاب إلى بار بتكوين الغريب".
بالنسبة للعديد من المهنيين السابقين في "وول ستريت"، فإن تحرك العملات المشفرة صوب دائرة الاهتمام هو ما يعزز ثقتهم في اختياراتهم المهنية. وأدى إطلاق صناديق العملات المشفرة المتداولة في البورصة بوقت سابق من العام الحالي، والذي جلب المزيد من أموال المؤسسات إلى القطاع، إلى جعل دخول المستثمرين العاديين أكثر سهولة. كما أن انضمام مزودين جدد للخدمات في القطاع مثل "بلاك روك" وإنفيسكو" و"فيديليتي إنفستمنتس" (Fidelity Investments) أضفى طابعاً يحمل سمة وول ستريت بشكل لا يمكن إنكاره على هذا المجال.
تحذير من تراجع الزخم
مع ذلك، يقول العاملون المخضرمون في سوق العملات المشفرة إنهم ينظرون إلى الارتفاع الحالي بحذر. فالأشخاص الذين قضوا وقتاً طويلاً في هذا المجال يدركون أن الزخم لن يستمر إلى الأبد.أوضح زاك باندل -43 عاماً- والذي كان يعمل في السابق خبيراً اقتصادياً أول ومعني باستراتيجيات الاقتصاد الكلي في "غولدمان ساكس": "بالطبع، تشعر بالسعادة عندما ترى عوائد إيجابية في محفظتك الاستثمارية، لكن لا أحد يتورط في قرارات متهورة مثل الاندفاع لشراء سيارة لامبورغيني". يرأس باندل حالياً إدارة الأبحاث في شركة "غرايسكيل إنفستمنتس" (Grayscale Investments) لإدارة أصول العملات الرقمية.
لا يعني هذا أن العاملين في قطاع العملات المشفرة لا يحتفلون بعام كان جيداً للغاية.
من بين أولئك، مايكل هارفي -43 عاماً- والذي بدأ العمل في شركة "جالاكسي" (Galaxy) للعملات المشفرة في 2023 بعد ما يقرب من عقدين من العمل في التمويل التقليدي. بدا الانتقال محفوفاً بالمخاطر وتجربة غير مضمونة النتائج في ذلك الوقت. في أول يوم عمل له، أهداه زميل زجاجة من مشروب كحولي من نوع فاخر. قال هارفي إن الزجاجة بقيت خلف شاشة حاسوبه منذ ذلك الحين، كإشارة إلى التزامه بضبط النفس.
عتبة الـ100 ألف دولار
لكن العام الحالي يُختتم على ارتفاع. تجاوزت بتكوين مستوى 100 ألف دولار بوقت سابق من ديسمبر الحالي، لتحطم أرقاماً قياسية سابقة بفضل آمال بتخفيف القيود التنظيمية من جانب إدارة ترمب المقبلة، بالإضافة إلى شهية متزايدة تجاه الأصول ذات المخاطر المرتفعة. تراجع السعر منذ ذلك الحين، لكنه ما يزال أعلى بأكثر من 500% مقارنة بأدنى مستوياته خلال 2022.هناك احتفال يلوح في الأفق. اختتم هارفي بالقول: "لدي شعور أننا ربما نبدأ الاحتفال قبل بدء عطلات العام الجاري".